اليوم التالي:
تحديات بناء السلم في مراحل ما بعد الصراعات بالمنطقة العربية

اليوم التالي:

تحديات بناء السلم في مراحل ما بعد الصراعات بالمنطقة العربية



نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 5 أبريل 2023، جلسة استماع بعنوان “اليوم التالي: تحديات بناء السلم في مراحل ما بعد الصراعات بالمنطقة العربية”، واستضاف الدكتور يسار قطارنة، مستشار في الوساطة وإدارة الأزمات بمنظمة مارتي اهتيساري للسلام بهلسنكي (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عددٌ من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبد العاطي، والأستاذ حسين معلوم، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ محمد الفقي، والدكتور هيثم عمران، والأستاذ محمد عمر.

واقع مضطرب

يُشير “قطارنة” إلى أن بيئة عملية السلام في المنطقة العربية، على مستوى الدول التي تشهد أزمات قائمة، أو الدول التي تشهد مرحلة انتقالية مثل حالة السودان، تتسم بحالة من عدم الاستقرار والتوتر، ويُحدد واقع بيئة بناء السلام في المنطقة العربية، من خلال عدد من السمات الرئيسية، كالتالي:

1- التغير السريع في ديناميات موازين القوى: التغيرات على الساحة الدولية خلال الفترة الماضية، أثرت على بنية التحالفات في الدول العربية التي تشهد أزمات، وينعكس ذلك على كل طرف من أطراف الصراع بالمنطقة.

وفي حين أن دول الصراعات بالمنطقة العربية تتشارك جميعها في تأثيرات هذا الواقع المتغير السريع، إلا أن الانعكاسات تختلف من منطقة لأخرى أو من دولة لأخرى، فالآثار المترتبة على تغير موازين القوى على الساحة الدولية تختلف -على سبيل المثال- من السودان إلى ليبيا واليمن، بما يعني أن هناك خصوصية لكل منطقة صراع.

2- تعدد الأطراف المنخرطة بالحروب والصراعات: هناك تغير في بنية الحرب في المنطقة العربية بحد ذاتها، وهو تغير بنيوي في مفهوم الحرب وآلياتها، مثل تطورات العمليات العسكرية وتعدد أدوات الحرب، وبروز الحروب الهجينة، وكل ذلك أسفر عن حالة انشطار على المستوى السياسي، إذ باتت هناك أطراف متعددة في كل دولة على حدة، لها علاقة بالحرب.

وتتسم بيئة الصراع المسلح في المنطقة العربية بحالة من السيولة في الأطراف المنخرطة. ونشهد حالياً أدواراً متزايدة للشركات العسكرية الخاصة، التي يتوقع أن تضطلع بأدوار أكبر خلال الفترة المقبلة، خاصة مع اتجاه الصين -على سبيل المثال- إلى تأسيس شركات عسكرية خاصة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.

3- تأثيرات الاستقطاب على توفر جهات محايدة: يبرز على المستويين الإقليمي والدولي، حالة استقطاب شديدة خلال السنوات الماضية، وإن شهد العامان الفائتان وجود نوع من الهامش الذي تستغله بعض الأطراف والقوى الإقليمية لتنفيذ سياساتها الخاصة.

هذا الاستقطاب الإقليمي والدولي له تأثيرات على تأسيس عملية سلمية لبناء سلم وتحقيق استقرار مستدام، وتحديداً على مستوى توفر جهات أو دول محايدة يمكن أن تلعب أدواراً في عملية بناء السلم في الدول التي تشهد صراعات.

وساد اتجاه في النقاش حول تراجع الاستقطاب الإقليمي خلال الفترة الأخيرة بين عدد من الأطراف الفاعلة، وتأثيرات ذلك على التسويات وبناء السلم في بعض دول الأزمات العربية، مثل احتمالات انعكاس الاتفاق السعودي الإيراني الأخير، على مستوى الساحة اليمنية، مع الإشارة إلى أن الملف اليمني معقد لدرجة كبيرة، بحيث يصعب التكهن بتأثيرات الاتفاق السعودي الإيراني المباشر والفعال في بناء سلام مستدام هناك.

4- غياب التشاركية والتوافق بين الأطراف الفاعلة: لتأسيس عملية سلمية لبناء السلم وضمان حالة الاستدامة، ينبغي التأكيد على مبدأ “التشاركية والشمولية”، بما يعني شمول كل الأطراف الفاعلة على طاولة المشاورات والمفاوضات لتسوية الصراعات المسلحة، مع تحقيق مشاركة جميع الأطراف، على قاعدة “الجميع فائزون”.

ولكن هناك أزمة في واقع بيئة بناء السلم في المنطقة العربية، ترتبط بغياب متزايد للنهج التعاوني والتوافقي أو التصالحي بين مختلف الأطراف الفاعلة، في ظل إعلاء “آلية صفرية” في التفكير الاستراتيجي لدى تلك الأطراف.

5- فقدان الثقة بالمنظمات الإقليمية والدولية: من خلال تجارب محاولات بناء السلم وتسوية الصراعات في دول المنطقة العربية، يتضح أن ثمة فقداناً للثقة والإيمان بالمنظمات الإقليمية والدولية، التي يمكن أن تعلب دوراً أو تساعد أي دولة تعاني من الصراعات وتدفع باتجاه تأسيس حالة من الاستقرار والسلام، سواء على مستوى الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو حتى الدول الكبرى.

ويواكب ذلك تصاعد الاتجاه إلى تأسيس تحالفات محدودة أو ضيقة بين عدد محدود من الدول، ليس في وقت الأزمات والصراعات، ولكن في وقت السلم أيضاً، بما يعني انحسار الثقة في المنظمات الإقليمية والدولية التي تضم عدداً كبيراً من الدول.

تحديات رئيسية

ويتطرق “قطارنة” إلى عدد من التحديات الرئيسية التي تعرقل عملية بناء السلم على قاعدة الاستقرار المستدام في المنطقة العربية، وفقاً لعدد من النقاط، أبرزها:

1- معضلة فهم السياق في الصراعات والأزمات: أحد أبرز التحديات التي تواجه عملية بناء السلم في دول الصراعات بالمنطقة، هو فهم السياق الخاص بكل أزمة، انطلاقاً من خصوصية كل حالة على حدة، وبالتالي فإن تجربة بناء السلم في أفغانستان تختلف عن الحالة الليبية وكذا عن الحالة اليمنية، وغيرها من حالات الدول بالمنطقة.

ويبقى فهم السياق لكل دولة، وذلك لتحديد من يجلس على الطاولة من الأطراف المؤثرة التي يستحيل تحقيق سلام مستدام من دونهم، وهي مرحلة تسبق “الشمولية والتشاركية” في عملية بناء السلم، لشمول ومشاركة كل تلك الأطراف الفاعلة تأسيساً على قاعدة: تساوي كل الجالسين على الطاولة، إذ إن الطرف الذي يُعد صغيراً الآن لا يمكن التنبؤ بقوته خلال سنوات مقبلة، وهناك مثال واضح على ذلك مثل “حزب الله”، فهل كان دوره في الثمانينيات مثل الآن، وهل كان أحد يتوقع أن يكون له هذا الدور الآن؟

2- غياب التكليف من الأطراف الإقليمية: تواجه عملية بناء السلم عقبة تتعلق بغياب استعداد الأطراف الفاعلة الخارجية لمنح تكليف للجهات المشاركة في عملية بناء السلم لحل الأزمات وتسوية الصراعات، كمرحلة أولية، يعقبها عملية بناء سلام مستدام.

غياب هذا التكليف يكون مؤثراً على عدم المضيّ في سبيل التوصل لاتفاق لتسوية الصراعات المسلحة، ومن ثم عرقلة بناء السلام، وهناك دول تستغل الوضع الدولي وحالة الاستقطاب الشديد، وتوظيف هامش التوازنات المتوفر حالياً في عمليات التأثير على الصراعات والأزمات في المنطقة، ولعب دور أكبر مثل تركيا.

3- الصراع على السلطة بين الأطراف المختلفة: انطلاقاً من حالة الانشطار والتشرذم في المكونات المحلية، وولاء كل طرف لوكيل خارجي عبر عمليات تمويل، فإن ثمة صراعاً بين الأطراف الداخلية على السلطة على مستوى الاقتصاد والسياسة وحتى على المستوى العقائدي، ويبقى السؤال: “كم طرفاً ومكوناً داخلياً وخارجياً يمكن التواصل معه للوصول لبناء السلام؟”.

وفي حالة اليمن على سبيل المثال، وفي ضوء حالة التشرذم حتى على مستوى المكون المؤيد للسلطة الشرعية ومناهض للحوثيين، يبرز تساؤل: “ما هو الطرف الذي يمكن أن يكون أرضية أو يُمكن أن يشكل أرضية لبناء السلم؟”، مع الأخذ في الاعتبار عدم وجود طرف محايد.

4- غياب الطرف القادر على فرض السلام: خلال العشر سنوات الفائتة أو أكثر، لا يوجد طرف واحد في العالم يمكن أن يفرض أو يوفر فرصة لبناء السلام، من خلال استثمار دولة كبرى كثيراً من أدواتها لتفرض على كل الأطراف ترك السلاح وبناء السلام.

وفي هذا السياق، فإن منطقة الشرق الأوسط ليست في أولويات الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من هذا فإن الاتفاق الأخير بين السعودية وإيران بوساطة صينية، لا يعني اتجاه الصين لتحدي الولايات المتحدة، فهي أذكى من ذلك، خاصة مع عدم قدرتها عسكرياً على مواجهة أمريكا، ولكن هذا لا يمنع اتجاه الصين للعب دور متزايد خلال الفترة المقبلة، في عمليات التسوية وبناء السلم، من خلال الحديث عن تأسيس معهد لهذا الغرض في هونج كونج.

5- حدود تقبل الشعوب والأجيال الجديدة للسلام: ساد اتجاه في النقاش بأن أحد التحديات التي تواجه عملية بناء السلم في دول الصراعات والأزمات العربية، الأبعاد النفسية الضاغطة على الشعوب والأجيال الجديدة، باعتبارها إحدى ركائز البنية التحتية لعملية بناء سلام مستدام ومستقر.

وهنا، يُشير “قطارنة” إلى الأجيال الجديدة من شعوب دول الصراعات التي تعرضت لحالة عنف متنوعة، سواء الذين تركوا بلدانهم أو هؤلاء الذي اضطروا إلى ترك منازلهم ونزحوا إلى مناطق أخرى داخل حدود الدولة. ولإقناع هؤلاء بتقبل السلام، لا بد من إيجاد آليات حقيقية للتهيئة لتقبل مسألة السلام من خلال بنية تحتية وتنمية اقتصادية وظروف معيشية، لإنهاء المعاناة اليومية، ثم الحديث عن تقبلهم للسلام.

مقاربات جديدة

وأخيراً، يرى مستشار الوساطة وإدارة الأزمات بمنظمة مارتي اهتيساري للسلام، أن الغرب يتعامل مع الصراعات والأزمات في المنطقة العربية، من منطلق أنها قابلة للتوقع والسيطرة عليها بل والتحكم فيها، ولكن تنتمي الأزمات والصراعات إلى عصر ما بعد الحداثة، أي أنها غير قابلة للتحكم والسيطرة والتنبؤ بها، إذ إن التغير هو السمة المميزة، فلا يوجد شيء ثابت، في ظل حالة السيولة في التحالفات والاستقطاب.

ويؤكد على أهمية تبني مقاربات “ما بعد حداثية”، للتعامل مع الصراعات والأزمات القائمة، وبالتالي هناك حاجة لأفكار جديدة، ومقاربات عربية لحل تلك الصراعات وتسويتها تمهيداً لعملية بناء سلام مستدام، بالتركيز على مؤسسات قادرة على صياغة مقاربات لا تعتمد على النهج النظري، ولكن أيضاً بالممارسة الميدانية في مناطق الصراعات.

كما تطرّق خلال النقاش إلى دور بعض المنظمات والجهات العربية والأجنبية التي أطلق عليها “مقاولي السلام”، والتي تسعى لتحقيق مصالح ومكاسب خاصة بهم، وفقاً للاتجاهات والمفاهيم الغربية، دون تحقيق تقدم على مستوى تسوية الصراعات وبناء السلام في المنطقة العربية.