يواجه المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا عبد الله باتيلي ثلاثة تحديات أساسية تتمثل في الانقسام السياسي، والتوتر الأمني، والانهيار الاقتصادي؛ وهي تحديات ترتبط بدورها بثلاثة ملفات مختلفة كانت محور الجهود التي بذلت من أجل حلحلة الأزمة الممتدة على الساحة الليبية طوال السنوات الماضية، وهي الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والمليشيات المسلحة، وتوحيد المؤسسات الاقتصادية والمالية الليبية.
في محاولة لتفعيل حل سياسي في ليبيا، وبعد 9 أشهر على شغور المنصب، تدخل جهود الأمم المتحدة مرحلة المبعوث “الثامن” لها على التوالي، والأول الحامل لجنسية أفريقية، وهو الدبلوماسي السنغالي عبدالله باتيلي. إذ أعلنت بعثة المنظمة الدولية في ليبيا، في 3 سبتمبر الجاري، أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش عيَّن “ممثلاً خاصاً له في ليبيا ورئيساً لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا”.
كان الوزير السنغالي السابق قد شغل منصب ممثل الأمم المتحدة في أفريقيا الوسطى، وعمل أيضاً مستشاراً خاصاً للأمين العام لشئون مدغشقر، ونائباً للممثل الخاص لبعثة الأمم المتحدة في مالي. هذا، فضلاً عن عمله، خلال السنة الماضية، خبيراً مستقلاً للمراجعة الاستراتيجية لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.
حدود الحركة
في بيان مُصاحب لقرار التعيين، أكدت الهيئة الأممية، على موقعها الإلكتروني، أن باتيلي “سَيُثري هذا المنصب بخبرة تزيد على 40 عاماً من العمل مع حكومته الوطنية والمؤسسات الأكاديمية والمنظمات الإقليمية ومنظومة الأمم المتحدة”. ورغم ذلك، يُجمع العديد من المراقبين للشأن الليبي، على ضرورة أن يجد المبعوث الجديد دعماً داخلياً من الفرقاء الليبيين، ليستطيع تحقيق التقدم في تجاوز الأزمة المتفاقمة، ولا سيما في ظل حالة الانقسام الحكومي والتوتر الأمني في العاصمة وضواحيها.
إلا أن المشكلة الأساسية التي تواجه باتيلي هي التناقض بين العوامل الدافعة إلى نجاحه في مهمته، وبين بعض الصعوبات التي يمكن أن تحد من ذلك النجاح. فمن جانب، هناك أكثر من عامل مساعد لنجاح باتيلي في محاولته حلحلة الأزمة الليبية وأسبابها، عبر اختراق معوقات الحوار بين أطراف الأزمة، ومنها حالة الضعف التي وصل إليها جميع الأطراف، خاصة مع وضعية الإنهاك وفقدان التوازن نتيجة طول أمد الصراع بينها، مما يجعلها مؤهلة على الأقل لـ”الحوار”. ومنها أيضاً الجنسية الأفريقية التي يحملها باتيلي، وهو بذلك بعيد عن دول “الناتو”، بما يجعله مقبولاً من معظم الأطراف الليبية.
لكن من جانب آخر، هناك صعوبات سوف تؤثر على مدى الاستقلالية في حركة باتيلي، كمبعوث أممي، ورئيس بعثة المنظمة الدولية للدعم في ليبيا، منها أنه تسلم مهمته في أعقاب فشل ستيفاني وليامز، التي انتهت مهمتها وغادرت بعد أن تركت ملفات ساخنة، سواء في الملف السياسي الذي ازداد تعقيداً، أو الأمني الذي تطورت فيه الأمور إلى أن وصلت للحرب التي اندلعت بين الأطراف المتناحرة، قبل أسبوع واحد من تولي باتيلي مهام عمله. ومنها أيضاً طواقم إدارته التي لم تتغير طوال سنوات، والتي ربما تقوده إلى نفس مسارات من سبقه من مبعوثي الأمم المتحدة، خاصة أن تلك الطواقم سوف تعطيه نفس المعلومات، وتقدمه لنفس الشخصيات.
هذا، فضلاً عن التدخلات الدولية في الأزمة الليبية، في ظل المنافسة المحتدمة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى الدول الأوروبية، وهو ما ظهر بوضوح في تأخر موافقة مجلس الأمن الدولي على تسمية مرشح جديد لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، طوال 9 أشهر؛ إضافة إلى ما يمكن أن تمارسه القوى الدولية الكبرى من ضغوط على “دولة المبعوث الأممي” لدفعه إلى السير في الاتجاه الذي تريده هذه القوى، مما يمكن أن يؤدي إلى إخضاع باتيلي لطموحاتها، خاصة أن دولة أفريقية كالسنغال لن تستطيع مواجهة ضغوط القوى الدولية.
عقبات متعددة
من الواضح أن اختيار باتيلي جاء في وقت حرج من عمر الأزمة الليبية، ليس فقط بسبب التركة الثقيلة التي ورثها ممن سبقوه، على مدى السنوات العشر الماضية، ولكن أيضاً نتيجة الملفات المتشابكة التي تعج بها الأزمة؛ وتطرح من ثمّ عدداً من العقبات التي تطال كافة مناحي الحياة في ليبيا. ويمكن تناول أهم هذه العقبات فيما يلي:
1- الانقسام السياسي ومعضلة إنجاز الانتخابات: رغم أن حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة قد انتهت ولايتها “محلياً” بانتخاب حكومة فتحي باشأغا من قبل مجلس النواب، و”دولياً” بانتهاء اتفاق جنيف، في 21 يونيو الماضي، وفق خريطة الطريق التي تولى بموجبها عبدالحميد الدبيبة حكومة الوحدة الوطنية؛ إلا أن الأخير رفض التخلي عن السلطة لحكومة باشأغا، التي تحاول ممارسة مهامها من مدينة سرت، بعد تأكيد الدبيبة أنه لن يسلم السلطة إلا بعد إجراء الانتخابات.
أيضاً، هناك الأزمة السياسية الأخرى التي تتمثل في الصراع بين غرفتين نيابيتين، هما مجلس النواب ومجلس الدولة، وهو خلاف مستقل عن الخلاف بين الحكومتين، حيث إنه خلاف تشريعي؛ ففي حين يرى البرلمان أن صلاحياته التشريعية حصرية له، يصر مجلس الدولة على مشاركة مجلس النواب في تلك الصلاحيات، مستنداً إلى اتفاق الصخيرات الموقّع في عام 2015 بالمغرب.
ومن هنا، تأتي مشكلة الانتخابات ليس فقط لعدم توافر السلطة التنفيذية القادرة على تنظيم العملية الانتخابية وحمايتها، وتوفير البيئة المناسبة لإجرائها؛ ولكن كذلك لعدم التوافق على القاعدة الدستورية حول بنود الترشح، فضلاً عن الخلاف الأخير حول المحكمة العليا.
2- التوتّر الأمني وأزمة حل المليشيات: في ظل هشاشة النظام الأمني، وانقسام أجهزة الدولة، تُعد قضية المليشيات المسلحة وفوضى السلاح في عموم ليبيا من المشكلات التي تعوق الحلول السلمية هناك. بل إن الحكومة المنتهية الولاية لم تقم بدورها المنوط بها في تدعيم المؤسسات الرسمية في البلاد، ومحاولة استعادتها وهيكلتها، كما كان يُفترض بها؛ ولكن على العكس قامت بتقوية المليشيات، من خلال دعمها وتقويتها، والاستقواء بها. وما الاشتباكات التي دارت بين أنصار الدبيبة، وداعمي باشأغا، في العاصمة طرابلس في 27 و28 أغسطس الفائت، وأوقعت 32 قتيلاً وعشرات الجرحى؛ إلا مجرد مثال. لكن ما يبعث على قدر ما من التفاؤل، بخصوص التوتر الأمني، هو التوجه إلى توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، عبر المباحثات التي تجري بشكل مستمر بين شرق ليبيا وغربها، والتي تقودها اللجنة العسكرية المشتركة من خلال قيادات عسكرية من الطرفين.
3- الانهيار الاقتصادي وإشكالية توحيد المؤسسات: من بين الملفات المأزومة التي ورثها باتيلي ممن سبقوه، يأتي الاقتصاد المتعثر إلى درجة الانهيار، والانقسام الحاصل في المؤسسات الاقتصادية والمالية. فما بين هذا وذاك، ترزح ليبيا تحت وطأة الصراع حول هذه المؤسسات، خصوصاً البنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط. ونتيجة وجود هاتين المؤسستين داخل المنطقة الغربية حصراً، يشتد الصراع حول العاصمة طرابلس، وتتبعثر جهود حلحلة الأزمة. ورغم التعافي النسبي الذي تشهده حالياً المؤسسة الوطنية للنفط، من حيث الإنتاج على الأقل؛ إلا أن تعثر توحيد البنك المركزي هو الأساس الذي يجعل من الملف الاقتصادي تحدياً كبيراً بالنسبة إلى باتيلي.
4- إدارة علاقات متوازنة مع أطراف الصراع: كان لافتاً أن حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة أبدت اعتراضاً مسبقاً على تعيين باتيلي مبعوثاً أممياً جديداً إلى ليبيا، بحجة أنها كانت تطمح في أن يكون المبعوث الجديد مؤهلاً أكثر، وأنه “كان من المفترض أن تجري مفاوضات عميقة وجدية مع الليبيين بخصوص المبعوث الأممي الجديد، حتى نضمن أن العمل معه سيكون ناجحاً”، حسب تصريحات المندوب الليبي في الأمم المتحدة طاهر السني. وهنا، فإن على باتيلي أن يتجاوز تلك العقبة بداية، قبل أن ينخرط في الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية للخلافات العالقة بين تلك الأطراف.
توقيت حرج
في هذا السياق، يبدو التوقيت الحرج الذي تسلم فيه المبعوث الجديد عبدالله باتيلي مهام عمله كرئيس لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وتبدو أيضاً مدى صعوبة التحديات التي سوف يواجهها، بل تعقيد الملفات المتشابكة التي عليه أن يتعامل معها، خصوصاً مع فشل محاولات كثيرة للوساطة بين الأطراف الليبية المتنازعة.
وعلى ضوء ذلك، فإن نجاح باتيلي يتوقف على مدى قدرته على إيجاد حلول جديدة، من خلال تغيير نهج عمل البعثة الأممية في ليبيا، بشكل يخالف ما سارت عليه خلال السنوات السابقة. فالخطأ الكبير الذي سار عليه أسلاف باتيلي، كان التركيز على أن يتوافق المتصارعون حول سلطة جديدة، دون السعي لحل الخلاف بينهم، مما يؤدي إلى فشل أي سلطة جديدة. وبالتالي، سيكون من المفيد تحديد أولويات العمل وترتيبها بشكل صحيح، بأن يبدأ بالدفع في اتجاه الاستفتاء على الدستور، ثم دعم مرحلة التجهيز للانتخابات. صحيح أن كون المبعوث الأممي الجديد أفريقياً قد يساهم في إعطاء هامش من التفاعل الأفريقي والعربي مع الأزمة الليبية، بشكل إيجابي؛ لكنه لن يكون كافياً في إزالة أسباب الأزمة، أو الوصول إلى حلول ناجعة، دون التفكير في “رؤية غير تقليدية” للأزمة وكيفية حلحلة أسبابها.