يشاء حظي أن أعيش لأشهد نموذجاً مصغّراً لحرب عالمية أتأثر بها، وأحاول التأثير فيها. ضاعت مني فرصة أن أكون شاهداً على حرب عالمية حقيقية.. نشبت الأولى وانتهت قبل أن أولد، ونشبت الثانية وانتهت وأنا طفل يعي ولا يستوعب. ولم تنشب الثالثة، أو ما يشبهها، لأكون شاهداً عليها إلا وقد صرت واعياً إلى درجة تسمح باستيعاب ما يجري. نشب ما يشبه المجسم لحرب عالمية طرفاه، وبمعنى أدق أطرافه، ثلاث من القوى العظمى، ومعها العديد من الحلفاء. بين هؤلاء الحلفاء من انضم إلى الحرب من تلقاء ذاته ولخدمة مصالح بعينها، ومنهم من انضم تحت الإقناع بالضغط، أو بغيره، ومنهم من يخاف العقوبات، وأرهبه التهديد بالمقاطعة الاقتصادية والحملات الإعلامية.
دول أخرى أكثر عدداً وقفت على هامش دائرة الحرب رافضة إغراءات وتهديدات عدة، ومتمسكة بموقف اللا انحياز الخجول بطبعه الجديد، المتوسل حيناً، والمتهور حيناً آخر. المؤكد في كل الأحوال، من وجهة نظري على الأقل، هو المدى البعيد الذي راحت إليه هذه الحرب، أو مجسم الحرب، كما أطلقت عليه، في التأثير والتأثر بالعالم بأسره، سياسة واقتصاداً وارتزاقاً وجريمة منظمة وتضخماً وبطالة وأزمات غذاء وتحولات، دولية وإقليمية، وبغيرها من ثوابت ومتغيرات العالم الذي نعيش فيه. أختار منها لهذا المقال نتفاً لا تفي الموضوع حقه بقدر ما تلفت الانتباه إليه.
بدأت القمة الثانية والثلاثون كعادة معظم القمم العربية وسط انقسام وتوتر وخلافات في الرأي. كدت أكتب أن هذه القمة اختلفت عن سابقاتها في أن موضوع الخلاف الرئيسي فيها دار حول شخص رئيس دولة عربية مشارك في المؤتمر. ليست المرة الأولى على كل حال. تبقي سوريا كما بدأت مشوارها العربي، والعروبي أيضاً، تبقى «عنوان مسألة» وليست اسم دولة عضو في جامعة الدول العربية.
توقعت شخصياً أن يصدر عن هذه القمة تحديداً خارطة طريق مالية وإدارية لمسارات العمل داخل الأمانة العامة للجامعة العربية على امتداد سنوات مقبلة، لم تصدر، ويبدو أنها لن تصدر قريباً، أو صُرف النظر عنها. وكمراقبين من الخارج كان اللافت لنظرنا على امتداد سنوات الانشغال الدائب والمفصّل من جانب المملكة السعودية بالشؤون المالية والإدارية للجامعة. وصل الانشغال في أوقات إلى حد سبب قلقاً عظيماً لدول كثيرة، أو سعادة وانشراحاً لدى دول أخرى، عاشت على أمل أن تشهد إصلاحاً حقيقياً وناجعاً للعمل العربي المشترك وليس في الشؤون المالية والإدارية فقط.
جدير بالذكر أنه جاء في خطاب ولي العهد السعودي والرئيس الفعلي للمؤتمر، ما يلمّح، كما قال البعض، وما يشير كما قال بعض آخر، إلى أن المملكة تأمل أن تتاح الفرصة لدول المجموعة العربية لتستفيد من النهضة الاقتصادية الشاملة التي سوف تكون من نصيب المملكة في السنوات القليلة المقبلة. لم تصرح المملكة عن طريق ولي العهد، أو وفدها لدى المؤتمر، بأن لديها خطة شاملة تحقق بواسطتها تكاملاً اقتصادياً عربياً ينهض بالأمة نهضة غير مسبوقة، ولكنها ألمحت، أو أشارت إلى علاقة سوف تربط النهضة السعودية المنتظرة بنهضة عربية تلحق بها بالضرورة، وبالنية المسبقة.
مرة أخرى تعود، فيما يبدو، منطقة الخليج للتبشير بعهد جديد للعمل العربي المشترك. في المرة الأولى شهدت السبعينات انطلاق مرحلة صعود في العمل العربي المشترك مدفوعاً بالجهد القومي المشترك الذي حقق انتصارات عسكرية وطفرة مالية سمحت بنشاط مرموق لسنوات معدودة في مجالات اقتصادية ومصرفية وزراعية مشتركة. آمال شبيهة بآمال السبعينات طافت في أجواء قاعة اجتماعات قمة جدة، وربما، ومما سمعت وقرأت وشاهدت، لعلها أوسع طموحاً لأسباب وظروف مفهومة.
لا أتجاوز، أو أبالغ حين أقرر أن بعض ما شاهدناه وبعض ما سمعناه في أرجاء قاعة القمة في جدة وقع متأثراً بأجواء وتطورات الحرب الأوكرانية. في الوقت نفسه، لا أقلل من أهمية واقع ملموس، وهو صوت أعلى وأعمال جسورة تصدر عن دول الجنوب في مواجهاتها الخاصة مع دول الشمال المتصارعة على أرض أوكرانيا وشعبها. أتصور، وبين زملائي من يشاركني هذا التصور والإصرار على الاستمرار في ممارسة سياسات استعمارية، كان الظن أن أتصور أن دولاً في الجنوب أكثر عدداً صارت تحاول التفلت من ضغوط واستفزازات بعض دول الشمال، وبخاصة من سلوكات الهيمنة الأمريكية. أتفهم أسباب الشعور الطاغي في عالم الجنوب بأن أمريكا فقدت مشروعية الانفراد بقيادة العالم حين جرّت أوكرانيا، أرضاً وشعباً، لحرب غير مبررة، وكان من الممكن تفاديها بالتوقف عن استفزاز الوطنية الروسية، وأمن روسيا.
أتفهم في الوقت نفسه أسباب الانحسار المتدرج في تعاطف، ولا أقول تأييد، أهل وحكومات الجنوب مع روسيا في الحرب الناشبة بينها وبين الولايات المتحدة، وجماعتها. تعاطف الجنوب مع روسيا عن قناعة بأن روسيا كانت ضحية استفزاز تجري ممارسته منذ انتهت الحرب الباردة.
أتابع مثل غيري الميل المتصاعد من جانب أهل الجنوب في اتجاه الصين، وما يلحق بهذا الميل من اندفاع أمريكي نحو تصعيد المواجهة معها، والانشغال بتدبير سلاسل استفزاز لجرها لحرب قبل أوانها، وفي تقديرنا أن الجنوب مقدّر له، إن أحسن الاستعداد، لعب دور في وقف هذا التدهور المتسارع في العلاقات بين الدول العظمى.
نقلا عن الخليج