تحالفات الشرق الأوسط: خبرة الماضى واحتمالات المستقبل «٢/٢» – الحائط العربي
تحالفات الشرق الأوسط: خبرة الماضى واحتمالات المستقبل «٢/٢»

تحالفات الشرق الأوسط: خبرة الماضى واحتمالات المستقبل «٢/٢»



استعرضت المقالة الماضية التيارين اللذين تنازعا محاولات تأسيس أحلاف فى المنطقة ما بين التيار العروبى والتيار الشرق الأوسطى، وأوضحت أنه بينما أصاب الجمود المحاولة العربية الرئيسية لتأسيس تحالف عسكرى وهى معاهدة الدفاع العربى المشترك١٩٥٠فإن المنظومة الأمنية العربية تجلت فى مناسبتين بالغتى الأهمية وهما حرب أكتوبر١٩٧٣والحرب العراقية- الإيرانية (١٩٨٠-١٩٨٨)، وعلى النقيض فإن كل محاولات بناء تحالفات شرق أوسطية باءت بالفشل، واللافت كما أظهرت المقالة أنه إذا كان المد القومى العربى مسئولا عن هذا الفشل فى خمسينيات القرن الماضى وستينياته فإن فشله اللاحق فى ظل تردى أوضاع النظام الإقليمى العربى ليس له من تفسير سوى تهافت الفكرة الشرق أوسطية ذاتها لتناقض مكونات ما يُسَمى بالشرق الأوسط، وهو أصلا ليس موضع اتفاق، ولغياب هوية جامعة لهذه المكونات، علما بأن نطاقه الجغرافى يضيق ويتسع وفقا لمصالح المبادرين باقتراح ترتيبات شرق أوسطية، ومع ذلك فإن محاولات إحيائها مستمرة بدليل ما أشارت له المقالة فى نهايتها من جهود دءوبة يُقال إنها تجرى الآن لتأسيس تحالف شرق أوسطى جديد، فكيف نستشرف المستقبل القريب لهذه الجهود على ضوء خبرة الماضى ومستجدات الحاضر؟ سوف أُخاطر بطرح فرضية فى إجابتى عن هذا السؤال مفادها أن مآل هذه الجهود إما إلى الفشل لأسباب سأشرحها أو إلى تحقيق نتائج شكلية لن تصمد على أرض الواقع، وسأستند فى هذه المخاطرة التحليلية إلى أسباب ثلاثة أولها مستمد من الخبرة التاريخية التى استفاضت المقالة الماضية فى شرحها، والثانى والثالث يتعلقان بالمتغيرات العالمية والإقليمية الخاصة بالمنطقة.

وبالنسبة للمتغيرات العالمية فهى ليست جديدة تماما وإن تأكدت فى السنتين الأخيرتين، فقد تآكل الدور القيادى الأمريكى الأحادى بعد تفكك الاتحاد السوفيتى على خلفية مآل الغزو الأمريكى للعراق وأفغانستان انتهاء بالهزيمة المدوية فى مواجهة طالبان باتفاق فبراير٢٠٢٠فى ظل ولاية ترامب واكتمال الهزيمة فى رئاسة بايدن، وكذلك مواصلة القطار الصينى الدءوب مسيرته الثابتة إلى القمة، والعودة القوية لروسيا إلى المسرح الدولى منذ وصل بوتين إلى السلطة فى ٢٠٠٠، والتى أثمرت فى النهاية العملية العسكرية الروسية الراهنة فى أوكرانيا كأول تحد عسكرى للقيادة الأمريكية الأحادية القطبية للتحالف الغربى، ورغم تسخير هذا التحالف أقصى موارده وفرضه أقسى العقوبات وأشملها ضد روسيا فإنه لم يتمكن حتى الآن من وقفها، بل إن الحديث يدور الآن عن التأثيرات المعاكسة لهذه العقوبات على الولايات المتحدة وأوروبا بما يفتح الباب لاحتمالات حدوث تصدعات داخل هذا التحالف، والخلاصة أن الولايات المتحدة فى موقف أضعف بوضوح مما كانت عليه في٢٠١٧، حين وافقت القمة الأمريكية – العربية -الإسلامية على إنشاء التحالف الشرق أوسطى الذى لم ير النور على أرض الواقع، فكيف يراه فى ظروف أمريكية أسوأ؟

أما المتغيرات الإقليمية فلا تقل أهمية فى ترجيح الفرضية التى انطلق منها التحليل، وهناك أصلا قوة إقليمية رئيسية هى مصر صاحبة موقف استراتيجى سليم منذ معركتها من أجل الاستقلال قبل ثورة يوليو١٩٥٢وتحول هذا الموقف إلى دور قيادى فى إجهاض مشاريع الأحلاف الغربية منذ حلف بغداد وحتى الناتو العربى فى عهد ترامب، ويلاحظ أن هذا الدور قد اعتمد دائما على قوة مصر الناعمة دبلوماسيا وإعلاميا، أما القوى العربية الرئيسية الأخرى فقد كان لها أيضا موقفها الأصيل تجاه الأحلاف الأجنبية كما يتضح مثلا من التحالف السعودى – المصرى ضد حلف بغداد، وإن كانت ظروف الاستقطاب الدولى بين المعسكرين الرأسمالى والشيوعى وتفاقم التهديدات الإقليمية بعد الثورة الإيرانية قد أفضت إلى تقارب واضح بين بعض هذه الدول والتحالف الغربى، غير أن ما اتضح عبر الزمن ومنذ رئاسة أوباما بصفة خاصة من أن الولايات المتحدة تعطى الأولوية لمصالحها حتى ولو على حساب أصدقائها أثر دون شك على مواقف هؤلاء الأصدقاء تجاهها، كما اتضح فى مسألة الاتفاق النووى مع إيران وطرح فكرة الانسحاب من الشرق الأوسط رغم عدم عمليتها ونصيحة أوباما للعرب بالتعايش مع إيران، ناهيك بالتدخل الفج فى الشئون الداخلية بدعاوى حقوق الإنسان على نحو أصبح من الصعب معه الاستجابة لما تطلبه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، خاصة وقد أصبحت هذه الدول تتمتع بوزن يعتد به فى الساحة الدولية كما يبدو الآن فى أزمة الطاقة العالمية الراهنة، ومن ناحية أخرى طور معظم الدول العربية توجهات واقعية جديدة جديدة فى التعامل مع القوى الإقليمية غير العربية، وعلى سبيل المثال فإن دول الخليج العربية قد انفتحت بدرجات متفاوتة على إيران التى يُفترض أن تكون هدفا لهذا الحلف المقترح، بل إن بعضها إما أن له علاقات طبيعية معها كعُمان وقطر وإلى حد ما الكويت ومؤخرا الإمارات، كما أن ثمة حوارا سعوديا-إيرانيا حذرا لكنه يعنى إمكانية التهدئة والعودة للعلاقات العادية وتفادى التصعيد، وفى هذا الإطار سوف يبدو غريبا إجهاض كل هذه التطورات لحساب منطق الاستقطاب والعسكرة الذى نشاهد بأعيننا الآن ما أوصلنا إليه من تدمير وخراب فى الحرب الدائرة على الأرض الأوكرانية، والخلاصة أنه من الصعوبة والخطورة بمكان فى الوقت نفسه الاستجابة لمنطق العسكرة والتصعيد بينما يشهد العالم الآثار الكارثية لهذا المنطق فى صورة الأزمات الخطيرة الراهنة فى الطاقة والغذاء وصعوبات المعيشة التى قد تفضى لتحولات داخلية فى أطراف الصراع تضغط فى اتجاه التهدئة والتسوية السياسية رغم صعوبتها.

ويبقى احتمال أن يتم اتفاق ما على العكس من توقعات التحليل السابق، وفى هذه الحالة تُظْهر الخبرة التاريخية أن هكذا تطورات تأتى فى الغالب من باب المواءمة ودرء الحرج، لكنها لا تُتَرجم إلى حقائق على أرض الواقع، وتستحق منا شعوب المنطقة أن نسعى لتجنب كل ما يزيد أزماتها وصعوبات حياتها اليومية.

نقلا عن الأهرام