تأملات فى دلالات الاتفاق السعودى – الإيرانى وتداعياته (١) – الحائط العربي
تأملات فى دلالات الاتفاق السعودى – الإيرانى وتداعياته (١)

تأملات فى دلالات الاتفاق السعودى – الإيرانى وتداعياته (١)



أحدث الاتفاق السعودي-الإيرانى الأخير على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين طرفيه أصداء هائلة عربيًا وإقليميًا وعالميًا، وهو أمر متوقع بالنسبة أولًا للوزن الإقليمى لطرفيه، وثانيًا الوزن العالمى لراعى الاتفاق، وقد أثار التوصل للاتفاق أفكارًا وقضايا عديدة، وأتخير من هذه الأفكار والقضايا أربعًا تتعلق الأولى منها بتحولات النظام الإقليمى، والثانية بالتحول الواجب فى النظام العربى، والثالثة بالتداعيات المُحتملة للاتفاق على الصراعات الدائرة فى بعض البلدان العربية، والرابعة بدلالات الاتفاق بالنسبة لنموذج القيادة فى النظام العالمي.

وتتلخص التحولات الجارية فى النظام الإقليمى فى أن ثمة تغيرًا واضحًا قد طرأ على علاقة النظام العربى بمحيطه الإقليمى، وأهم الفاعلين فيه كما هو معروف إيران وتركيا وإسرائيل، وقد تميزت تلك العلاقة لمدة طويلة بطابع صراعى واضح تفاوتت حدته من دولة لأخرى، فوصلت شدة الصراع مع إسرائيل الى ذروتها بسبب طبيعة المشروع الصهيونى التى أفضت إلى حروب متكررة في١٩٤٨و١٩٥٦ثم في١٩٦٧و١٩٧٣، ليبدأ بعدها أول المؤشرات على إمكانية اتباع نهج جديد فى إدارة الصراع سياسيا كما تمثل فى التسوية السياسية بين مصر وإسرائيل، وهو نهج بدأ مصريا وقوبل بمعارضة عربية ثم انتشر تدريجيًّا ليشمل النظام العربى كله بمبادرة التسوية السلمية التى وافقت عليها قمة فاس العربية١٩٨٢، ثم مبادرة التطبيع الشامل مع إسرائيل فى مقابل استجابتها للمطالب العربية التى وافقت عليها قمة بيروت٢٠٠٢، وأخيرًا اتفاقيات التطبيع التى تمت بين أربع دول عربية وإسرائيل في٢٠٢٠، أما الطرفان المهمان الآخران فى قوى المحيط الإقليمى للنظام العربى فقد اتسمت علاقة النظام العربى بهما بصفة عامة قبل الثورة الإيرانية ١٩٧٩، وقبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم فى تركيا ٢٠٠٢ بقدر من التوتر وأحيانًا الصدام بسبب تموضعهما ضمن المعسكر الغربى المعادى لأهداف التحرر العربى، لكن تخلص الدولتين من التبعية للغرب أفضى لأن يكون لكل منهما مشروعه الإقليمى الخاص الذى تعارض كذلك مع مصالح عدد من النظم العربية، وبالذات بعد أن خلق عدم الاستقرار عقب الانتفاضات الشعبية فى مطلع العقد الثانى من هذا القرن مناخًا مثاليًا لاختراق بعض الدول العربية، غير أن استمرار التعارض بين النظام العربى ومحيطه الإقليمى، وتكلفة هذا التعارض أفضيا إلى تحولات فى العلاقات تمثلت فى الانفتاح الإماراتى على كلٍ من تركيا وإيران، والانفتاح السعودى على تركيا بالإضافة لحوار مع إيران أثمر الاتفاق الأخير على إعادة العلاقات، والحوار المصرى – التركى الذى حقق مؤخرًا نتائج تشير إلى قرب عودة العلاقات لطبيعتها، علمًا بأن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لم تُقطع وقت الخلاف، كما أن العلاقات الاقتصادية حافظت على وتيرتها الطبيعية فى أثنائه.

وتثير هذه التطورات أمرين يتعلق أولهما بدور الأفكار فى التحولات السياسية، وأقصد أن أفكارًا كانت قد طُرِحَت منذ أكثر من١٠سنوات فى هذا الاتجاه، وبالتحديد مبادرة السيد عمرو موسى إبان توليه الأمانة العامة للجامعة العربية فى قمة سرت٢٠١٠، بتأسيس رابطة لدول الجوار العربى، وكان من شأن أخذ هذا المقترح على محمل الجد أن يوفر على جميع الأطراف تكلفة سياسية ومادية هائلة، لكن بعض الدول العربية تحفظ، عليه مع أن موسى كان واعيًا بالصعوبات الناجمة عن تناقض المصالح وطرح تصورًا واضحًا للتعامل معها، وليت هذا يكون دافعًا لنا للاجتهاد والإبداع فى أفكار يمكنها تجاوز المشكلات العربية المزمنة، أما الأمر الثانى فهو أن التطورات الأخيرة تدفع البعض للترويج لفكرة تبلور نظام شرق أوسطى يحل محل النظام العربى، ويجب فى هذا الصدد التفرقة بين أن يكون هناك ـ واقعيا ـ نظام للتفاعلات بين دول إقليم الشرق الأوسط، وهو نظام ينطوى على تفاعلات صراعية وتعاونية معًا، وبين تخيل أن هذا النظام يمكن أن يحل محل النظام العربى، وعلى الرغم من أن هذا النظام مأزوم بمعنى الكلمة إلا أن الحديث عن إحلال نظام شرق أوسطى محله بلا أساس أصلًا، فما يُسمى بالنظام شرق الأوسطى مازال حافلًا بتفاعلات صراعية ليس فقط بين دول عربية وأخرى شرق أوسطية، كما هو الحال فى العلاقة بين إسرائيل وعديد من الدول العربية، وإنما أيضًا بين دول النظام شرق الأوسطى غير العربية، كحالة إسرائيل وإيران أو حتى إيران وتركيا، ولذلك فأى حديث عن نظام شرق أوسطى يحل محل النظام العربى رغم أزمته فاقد للأساس أصلًا، وقد فشلت كل محاولات إقامة نظم شرق أوسطية أمنية فى مرحلة المد القومى العربى كحلف بغداد ومشروع أيزنهاور فى خمسينيات القرن الماضى، وكذلك مُنيت جهود إقامة نظام شرق أوسطى اقتصادى بالفشل عقب اتفاقية أوسلو١٩٩٣، وكذلك محاولات إقامة التحالف شرق الأوسطى الذى ورد ذكره فى بيان قمة الرياض٢٠١٧ثم وأدته قمة جدة للأمن والتنمية فى العام الماضى، وأهال عليه التراب الاتفاق السعودى – الإيرانى الأخير.

أما القضية الثانية الخاصة بالتحولات الواجبة فى النظام العربى فتتلخص باختصار فى أن المنطق يفضى وقد حدثت التحولات السابقة فى علاقات دول عربية وازنة بمحيطها الإقليمى إلى ضرورة استكمال عملية عودة سوريا للجامعة العربية فى أسرع وقت ممكن، بحيث تتم مع القمة القادمة على أقصى تقدير، لأن أنصار تعليق عضوية سوريا بنوا سلوكهم على أساس الخلاف مع ممارسات النظام السورى تجاه شعبه وعلاقته بإيران، وهانحن نطبع علاقاتنا مع القوى الإقليمية بغض النظر عن ممارسات نظمها الحاكمة مع شعوبها سعيًا للتوصل إلى توازن للمصالح معها، ولذلك فإن منطق استبعاد العلاقات مع النظم بناء على طبيعتها أو ممارساتها بحق شعوبها أو علاقاتها الخارجية قد سقط بحكم التحولات السابقة فى علاقات النظام العربى بمحيطه الإقليمى، ويجب أن يسقط كأساس للعلاقات بين الدول العربية، ونستكمل فى المقالة التالية بإذن الله.

نقلا عن الأهرام