ملفات متقاطعة:
تأثير التحركات الخارجية على الحسابات الداخلية في تركيا وإيران

ملفات متقاطعة:

تأثير التحركات الخارجية على الحسابات الداخلية في تركيا وإيران



تشير التحركات التي تقوم بها تركيا وإيران على الساحة الخارجية في الوقت الحالي إلى أنهما في اتجاههما إلى تصعيد استخدامهما للخيار العسكري في التعامل مع بعض الملفات، على نحو يبدو جلياً في تهديد إيران بتوسيع نطاق عملياتها في إقليم كردستان العراق، بالتوازي مع إطلاق تركيا عملية “المخلب-السيف” ضد مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وحزب العمال الكردستاني في شمالى سوريا والعراق.

وفي الواقع، فإنه بصرف النظر عن الدوافع التي تستند إليها الدولتان لتبرير هذه التحركات، يمكن القول إن هذا التوجه لا ينفصل عن اعتبارات داخلية ترتبط بحسابات القيادات في طهران وأنقرة للتأثيرات المحتملة التي يمكن أن تفرضها بعض الأحداث الداخلية التي وقعت خلال الفترة الأخيرة على غرار الاحتجاجات في إيران وانفجار تقسيم في تركيا.

اعتبارات عديدة

يمكن تفسير إقدام تركيا وإيران على التصعيد عسكرياً بشكل متزامن في كل من سوريا والعراق في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تقليص ضغوط الاحتجاجات الداخلية: تسعى إيران عبر مواصلة شن ضربات عسكرية ضد الجماعات الكردية الإيرانية المسلحة في شمال العراق إلى تقليص حدة الضغوط التي تفرضها الاحتجاجات الداخلية التي افتتحت شهرها الثالث في 15 نوفمبر الجاري. إذ يبدو أن السياسات التي يتبعها النظام في التعامل مع الاحتجاجات لم تنجح في تقليصها، بل ربما تتزايد بفعل ارتفاع عدد القتلى، الذي يمكن أن يتسبب في انضمام قطاعات وفئات جديدة إلى المحتجين.

ويبدو ذلك جلياً في حالة الطفل كايان بيرفلاك الذي قالت أسرته إنه قتل على يد قوات الأمن. وفي هذا الصدد، فإن مواصلة شن عمليات عسكرية في شمال العراق، وربما توسيع نطاقها خلال المرحلة القادمة يخدم السردية التي ما زال النظام حريصاً على تبنيها حتى الآن، والتي تقوم على أن ما يحدث هو من تدبير قوى خارجية تسعى إلى تهديد استقراره في الحكم.

وكان المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي آخر من أشار إلى هذه المزاعم، عندما قال، في 19 نوفمبر الجاري، أن “أمريكا وأوروبا غاضبة من تقدم إيران”، وأضاف: “إنهم لن يتمكنوا من تحقيق أي شيء كما باتوا عاجزين عن تحقيق أي شيء في الماضي”.

2- الاستعداد مبكراً للانتخابات الرئاسية: يستعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مبكراً للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي سوف تجرى في 18 يونيو 2023. وفي هذا السياق، تشير تقارير عديدة إلى أنه يسعى إلى إعادة تعزيز شعبيته من جديد وبالتالي دعم فرصه في تجديد ولايته الرئاسية، عبر الترويج إلى أن الخيارات التي يصر على تبنيها في التعامل مع الأزمات الخارجية، على غرار الأزمة السورية، تهدف في المقام الأول إلى حماية الأمن القومي لتركيا، خاصة بعد الحادث الإرهابي الذي وقع في اسطنبول في 13 نوفمبر الجاري.

ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفصل عن الحملة المستمرة التي تشنها قوى المعارضة ضد السياسة الخارجية التي تتبناها الدولة، والتي اعتبرت أنها سوف تفرض في النهاية تداعيات عكسية على مصالح وأمن تركيا. وربما من هنا أيضاً يمكن تفسير إقدام الرئيس أردوغان، في 17 نوفمبر الجاري، على الإشارة إلى أن السياسة التركية تجاه النظام السوري قد تتغير ويعاد النظر فيها بعد إجراء الانتخابات الرئاسية.

وبالطبع، فإن هذه الإشارة تهدف إلى تأكيد أنه لا يتوانى عن إجراء تغيير، أو بمعنى أدق “إحداث استدارة” في السياسة الخارجية في حالة ما إذا رأى أن ذلك يتوافق مع المصالح التركية، وهو التوجه نفسه الذي تسعى قوى المعارضة إلى دعمه والترويج له، فضلاً عن أنه يحاول من خلال ذلك تأكيد أن أنقرة سوف تسعى إلى رفع مستوى التنسيق مع النظام السوري في مواجهة الأكراد خلال المرحلة القادمة.

ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن فهم التغير الملحوظ في السياسة التركية إزاء العديد من القوى الإقليمية في المنطقة، على غرار إسرائيل، حيث اتفق الرئيس أردوغان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد بنيامين نتنياهو، في 17 نوفمبر الحالي، على “فتح صفحة جديدة” في العلاقات الثنائية، إلى جانب مصر، حيث التقى مع الرئيس عبد الفتاح السيسي على هامش افتتاح نهائيات كأس العالم لكرة القدم في قطر، في 20 نوفمبر الجاري.

3- تصدير فكرة “تماسك المؤسسات”: تحاول إيران عبر توجيه ضربات عسكرية في شمال العراق تصدير فكرة استمرار “تماسك المؤسسات”، لاسيما المؤسسة العسكرية، التي ما زالت تتحرك على الأرض من أجل حماية النظام، وفي الوقت نفسه، وحسب الرواية الرسمية، مواجهة التهديدات الخارجية أو الأطراف المحلية التي تسعى إلى استغلال الحدود مع دول الجوار لتوسيع نطاقها نشاطها في الداخل.

وفي رؤية النظام الإيراني، فإنه طالما أن المؤسسة العسكرية ما زالت متماسكة، فإن ذلك يضع حدوداً للمدى الذي يمكن أن تصل إليه الاحتجاجات الداخلية، رغم استمرارها لأكثر من ستين يوماً. كما أن ذلك يوجه رسالة إلى الخارج بأن النظام ما زالت لديه القدرة على “التعايش” مع الأزمة الداخلية حتى لو طال أمدها، الذي يضفي عليها نوعاً من الخصوصية عند مقارنتها بغيرها من الاحتجاجات السابقة التي تم احتواءها خلال فترات زمنية قصيرة.

4- احتواء نفوذ الخصوم السياسيين: ربما يسعى الرئيس أردوغان إلى استغلال الحادث الإرهابي وشن عملية عسكرية ضد الأكراد في شمالى سوريا والعراق بعد توجيه الاتهامات إلى حزب العمال الكردستاني ومليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” بالمسئولية عن هذا الحادث، من أجل توجيه ضربات سياسية وأمنية للأكراد في الداخل، قبل الانتخابات البرلمانية التي سوف تجري في التوقيت نفسه مع الانتخابات الرئاسية، وبالتالي تقليص قدرتهم على تحقيق نتائج بارزة على غرار تلك التي تحققت في استحقاقات انتخابية سابقة، لاسيما الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

وبالطبع، فإن هذا الهدف ربما يكتسب أهمية خاصة، لاسيما بعد أن بدأ حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد- ثالث أكبر حزب في الدورة البرلمانية الحالية- في الاستعداد مبكراً للانتخابات، حيث أعلن، في 26 أغسطس الماضي، عن تأسيس تحالف جديد يضم إلى جانبه خمسة أحزاب يسارية، وسيحمل اسم “تحالف العمل والحرية”، على نحو يعني أنه يسعى إلى تعزيز قدرته على منافسة حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال المرحلة القادمة.

قواسم مشتركة

على ضوء ذلك، يمكن القول إن هذا التوجه سوف يستمر خلال المرحلة القادمة. إذ أن وقوع حادث اسطنبول في هذا التوقيت، وبدء شن عملية عسكرية جديدة في شمالى سوريا والعراق، فضلاً عن استمرار الاحتجاجات في إيران للشهر الثالث على التوالي، يطرح دلالة رئيسية تتمثل في أن كلاً من تركيا وإيران تبدوان مقبلتين على استحقاقات سياسية داخلية لا تبدو هينة، سواء لجهة تحفز المحتجين في الداخل الإيراني لرفع مستوى ضغوطهم على النظام إلى أقصى حد، أو لجهة محاولة القوى المناوئة لحزب العدالة والتنمية لمنافسته في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة.