أشار تقرير حديث لوحدة الاستخبارات بمجلة “الإيكونوميست” بعنوان “انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان: التداعيات على المخاطر السياسية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” إلى أن انسحاب واشنطن من كابول يأتي على خلفية رغبة الإدارة الأمريكية في إعادة تشكيل تواجدها الخارجي السياسي والعسكري داخل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى؛ حيث سعى الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون منذ نهاية حرب العراق وثورات الربيع العربي في عام 2011 إلى إيجاد طريقة يمكنهم من خلالها الانفكاك عن صراعات المنطقة. وقد استعرض التقرير تبعات الانسحاب الأمريكي على دول الشرق الأوسط، موضحاً الدول التي ستكون أكثر عرضة بدرجة أكبر للاضطرابات السياسية بسبب التنافس الدولي عليها، والدول التي ستتمكن من الاستفادة من العلاقات الاقتصادية المتنامية مع الصين، وقد بين محاولات عدد من دول المنطقة الاعتماد بدرجة أكبر على ذاتها. وفيما يلي أهم الأفكار التي تضمنها التقرير:
انسحاب متدرج
1– عدم الانسحاب الأمريكي من المنطقة بشكل سريع: لا يرجح التقرير مسألة انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية بشكل سريع من منطقة الشرق الأوسط، مفسراً ذلك بعدم رغبة الإدارة الأمريكية في تلقي المزيد من الانتقادات على غرار التي تعرضت لها بعد قرار الإدارة الأمريكية الانسحاب من أفغانستان بحلول نهاية أغسطس الماضي. فضلاً عن أن استمرار وجود بقايا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش) سيجعل وجود واشنطن في المنطقة على المدى المتوسط ضرورياً حتى لو كان بشكل محدود.
ويمكن إرجاع ذلك إلى حفاظ الولايات المتحدة على تواجدها الأمني بالمنطقة، حيث ستسعى واشنطن للحفاظ على دورها بصفتها القوة الأمنية الرئيسية بالمنطقة؛ إلا أن النأي بنفسها عن الانخراط في صراعات طويلة الأجل يفتح المجال لقوى أخرى، وخاصة الصين وتركيا وروسيا، لتكون من أصحاب النفوذ الإقليميين بالشرق الأوسط.
عزلة أنقرة
2- ضعف الدور التركي في الشرق الأوسط: أوضح التقرير أن أنقرة هي أضعف قوة إقليمية قد تحقق مكسباً في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من المنطقة. فبالرغم من زيادة تدخلاتها العسكرية فيها، ولا سيَّما في سوريا وليبيا، فإن تركيا تواجه تحديات سياسية واقتصادية في أعقاب الجائحة على المستوى الداخلي؛ مما سيجعلها أقل قدرة على استخدام قوتها الصلبة على المدى القريب.
ويترتب على ذلك مساعٍ تركية للتقارب من جديد مع المنطقة؛إذساهم انخراط تركيا ودعمها طويل الأمد للجماعات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، في عزلها عن دول المنطقة وفي زيادة خسائرها، لذا فهي تسعى للتقارب مع القوى الإقليمية الأخرى، بما في ذلك دول الخليج العربي ومصر؛ حيث تسعى لتأمين وصولها إلى احتياطات الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. ولذا من المتوقع أن تخفف أنقرة من حدة التوتر داخل المنطقة على المدى القريب.
نفوذ موسكو
3- وجود روسي قوي في الشرق الأوسط: لفت التقرير الانتباه إلى الوجود الروسي القوي داخل المنطقة؛ حيث تحالفت موسكو مع نظام بشار الأسد وإيران في سوريا، بجانب تدخلها في ليبيا. هذا بجانب نجاحها في تجنب التصعيد بشكل مباشر مع إسرائيل بسوريا. ولعل نجاحها في الحفاظ على تواجدها المستقر داخل دمشق على النقيض من الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان، هو ما سيسمح بإظهارها بمظهر الشريك الموثوق به؛ مما سيؤهلها للعب دور دبلوماسي أكبر في المنطقة.
ويقود ذلك إلى زيادة مبيعات السلاح الروسي لدول المنطقة، حيث من المرجح أن يسمح انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة بزيادة المبيعات الروسية من الأسلحة لدول الشرق الأوسط، ولكن واشنطن ستظل مصدر الأسلحة الرئيسي للمنطقة.
توسع بكين
4- مصالح صينية اقتصادية بالمنطقة:أكَّد التقرير أن المصلحة الاقتصادية تُعد الدافع الرئيسي لتواجد بكين بالمنطقة؛ إذ توفّر منطقة الشرق الأوسط طرقاً للتجارة من آسيا إلى أوروبا وشرق إفريقيا، وهو الأمر الذي تحتاجه بكين لاستكمال تنفيذ مبادرة “الحزام والطريق”. ويتوقع توسع النشاط الاقتصادي الصيني في المنطقة على المدى المتوسط، وذلك بسبب نجاح بكين في الحفاظ على موقف أمني إقليمي محايد، ولعل ذلك كان سبب نجاحها في إقامة شراكة مع دول الخليج العربي وإيران على حد سواء.
وتوازى مع ذلك توجّه إقليمي لتعميق العلاقات مع بكين،بسبب قدرة الصين على تقديم حوافز اقتصادية لدول المنطقة أكبر من روسيا أو تركيا أو الولايات المتحدة. ودول المنطقة هذه على الرغم من شراكتها مع واشنطن إلا أن التقرير يعتقد أن العديد منها باستثناء إسرائيل ستسعى لتعميق علاقاتها الاقتصادية مع بكين، بما في ذلك إيران التي ستسعى للتخفيف من آثار العقوبات الأمريكية عليها، وكذلك دول الخليج العربي التي ستسعى لموازنة علاقتها بين واشنطن وبكين.
وفي هذا السياق، يتضح جلياً الفوز الصيني بعقود إعادة الإعمار بالمنطقة، وقد ارتأى التقرير أن النفوذ الصيني المتزايد بالمنطقة سيسمح لها بالفوز بعقود إعادة الإعمار في مناطق الصراع مثل سوريا وليبيا. لكنه أشار إلى أن تنامي المصالح الصينية الاقتصادية سيجعل من الصعب عليها الحفاظ على حيادها الجيوسياسي بالمنطقة.
حليف غير مستقر
5- زيادة اعتماد حلفاء واشنطن على أنفسهم: يشير التقرير إلى احتمالية توجه حلفاء الولايات المتحدة التقليديين إلى التصرف بشكل مستقل لتأمين مصالحهم الخاصة، وهو الأمر الذي دعا إليه الرئيس السابق “دونالد ترامب”، وقد تتجه الدول لتطبيقه الآن، خاصة مع مشروطية الدعم الأمريكي تحت حكم الرئيس “جو بايدن”، بجانب المفاوضات المستمرة حول القدرات النووية الإيرانية؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى تخفيف العقوبات المفروضة على طهران مستقبلاً، وزيادة نفوذها داخل المنطقة.
محاور متنافسة
6- تشكل كتل إقليمية مناوئة بعد انسحاب واشنطن: من المحتمل أن تتشكل ثلاث كتل إقليمية في أعقاب الانسحاب الأمريكي من المنطقة، فقد تتجه دول الإمارات والسعودية ومصر لتكوين تحالف، كما ستتشكل كتلة أخرى بقيادة إيران، وستضم نظام الأسد والقوى الشيعية غير الحكومية مثل جماعة “حزب الله” اللبنانية. بجانب كتلة أخيرة راعية للإسلاميين والتي تضم قطر وتركيا.
وهنا، يوجد مساران، أولهما محاولة اللجوء إلى الحوار؛حيث أكّد التقرير أن انسحاب الولايات المتحدة سيجعل العلاقة التفاعلية بين الكتل الثلاث –السابق الإشارة إليها- هو مفتاح تحقيق الاستقرار الإقليمي. مشيراً إلى أنه من المتوقع زيادة الحوار بينهم للتوصل إلى حلول إقليمية تحد من الصراع داخل المنطقة، خاصة داخل سوريا وليبيا واليمن، وذلك بالنظر إلى محاولات تركيا الأخيرة لفتح الحوار، وإنهاء المقاطعة الرباعية لقطر على خلفية رفع الدعم الأمريكي عن تلك المقاطعة، بجانب المحادثات الأخيرة بين إيران والسعودية.
أما المسار الثاني فهو تصاعد فرص احتدام الصراع بين الكتل الثلاث؛ إذ أشار التقرير إلى أن الاختلافات الأيديولوجية بين الكتل الثلاث ستتسبب في تفاقم عدم الاستقرار داخل المنطقة في حال لم ينجح الحوار بينها في التوصل إلى حلول فعَّالة. فمثلاً قد ينجح الحوار السعودي الإيراني في وقف إطلاق النار باليمن، إلا أنه من غير المحتمل حدوث تقارب مستدام بين الرياض وطهران.
وسيؤدي تنافس دول المنطقة إلى التدخل في شؤون مختلف الدول وإلى استمرار تفشي الصراعات داخل المنطقة، ويعرّض الدول للانقسام، كالتدخلات الخارجية في لبنان والعراق.
المصدر:
– “US Afghanistan withdrawal The impact on MENA geopolitical risk”, The Economist Intelligence Unit, 2021, pp. 1- 12.