نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 7 أغسطس 2022، جلسة استماع بعنوان “تأثيرات زيارة بايدن للمنطقة على الدول العربية”، واستضاف المركز السفير محمد توفيق، سفير مصر الأسبق في واشنطن (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ حسين معلوم، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ هيثم عمران، والأستاذة ميرفت زكريا، والأستاذ علي عاطف والأستاذة نادين المهدي.
اعتبارات حاكمة
تناول السفير محمد توفيق، زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمنطقة الشرق الأوسط، في ضوء فكرتين رئيسيتين، على النحو التالي:
1- الولايات المتحدة لا تزال وستظل في المستقبل المنظور، المحرك الرئيسي لتفاعلات السياسة الدولية.
2- الولايات المتحدة عندما تصوغ سياساتها الإقليمية بمنطقة الشرق الأوسط تنطلق من اعتبارين، يتفاعلان معاً لتشكيل السياسة الأمريكية، خاصة في ظل عدد كبير من التحولات:
أولاً- الأوضاع الداخلية الأمريكية: ودون استيعاب جيد لهذه الجزئية لا يمكننا التفاعل بعمق مع السياسة الأمريكية، إذ نرى حالة استقطاب، وهو أمر طبيعي في الولايات المتحدة، وأصداء الحرب الأهلية الأمريكية لا تزال تتردد، وآثارها لم تنتهِ حتى هذه اللحظة، ورأينا تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء التي وصلت لمرحلة تُسبب تذمراً حقيقياً بين الطبقة الوسطى الأمريكية، ليس فقط اقتصادياً واجتماعياً، ولكن أيضاً النظرة الأيديولوجية داخل المجتمع الأمريكي متباينة، فقد رأينا حكماً تاريخياً صدر بإلغاء حكم سابق يتعلق بحق المرأة في الإجهاض، وسيكون مؤثراً على انتخابات التجديد النصفي المقبلة في الكونجرس.
ولا يمكن إغفال أن بايدن يأتي وعينه على شهر نوفمبر المقبل، وانتخابات التجديد النصفي للكونجرس، فلو سيطر الجمهوريون على الكونجرس فسيكون بايدن عاجزاً عن تنفيذ السياسات التي يحاول ترتيبها. وهناك إشكالية حقيقية أمريكية رأيناها في اقتحام الكونجرس لمنع اعتماد نتيجة الانتخابات الرئاسية، وهو أمر ملفت للنظر بالنسبة للسياسة الأمريكية.
ثانياً- النظرة الاستراتيجية العالمية للسياسة الأمريكية: وهو اعتبار يمر أيضاً بمرحلة تحول كبرى، والتحدي الأكبر هو صعود الصين. يكفي الإشارة إلى أن الاتحاد السوفيتي وهو في ذروته كان نصف حجم الاقتصاد الأمريكي، أما الصين الآن فيقترب حجم اقتصادها من الاقتصاد الأمريكي، ويُتوقع أن يتجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الأمريكي خلال السنوات العشر المقبلة، والصين ليست فقط عملاقاً اقتصادياً ولكنها أيضاً تنافس أمريكا في مجالات التكنولوجيا الأكثر أهمية وحساسية، مثل الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الفضاء، والتكنولوجيا الحيوية، ونجد أن هناك منافسة محتدمة في هذه المجالات، ولو راقبنا كيف تتعامل الولايات المتحدة مع الأشخاص المتهمين بتسريب المعلومات التكنولوجية للصين، نجد أن هناك قسوة شديدة في التعامل.
وهناك تحدٍّ آخر يلي التحدي الصيني في الأهمية، يرتبط بإصرار روسيا على الاحتفاظ بوضعية القوة الكبرى. ولو نظرنا إلى السياسة الأمريكية تجاه روسيا، نجدها عبارة عن عملية حصار يتم تضييقه وتطبيقه بشكل متدرج، بهدف تجريدها من وضعية الدولة العظمى، وحرمانها مستقبلاً من الوضعية التي كانت لها سابقاً. ولو تحدثنا عن الوضع في أوكرانيا، فإنه لم ينشأ في فبراير الماضي، ولكنه يتبلور منذ فترة، والسياسة الأمريكية تنشط منذ فترة في هذا السياق، خاصة منذ 2014.
والسؤال المطروح في الحرب الروسية الأوكرانية: هل تغفل الولايات المتحدة مؤقتاً عن الصين حتى تتعامل مع الحرب الروسية الأوكرانية؟ أم تُدرج الصين مع روسيا في إطار حرب باردة جديدة وعملية احتواء؟ وقد اختارت الولايات المتحدة البديل الثاني، لم تسمح لنفسها بأن تهدر سياساتها تجاه الصين ولو للحظة، وهذا الوضع الدولي الجديد يحوي تحديات حقيقية تضاف لتعقيداته، في ظل قيام الدول الكبيرة الإقليمية بدور متزايد ومتعاظم في إطار من الاستقلالية.
انعكاسات رئيسية
أشار “توفيق” إلى أن الولايات المتحدة تمتلك استراتيجية للتعامل مع التحديات الكبرى التي تواجهها، وبالتأكيد لها انعكاسات على سياساتها تجاه منطقة الشرق الأوسط، ويمكن تحديد أبعاد الاستراتيجية الأمريكية كالتالي:
1- تشكيل تحالفات موسعة: عمدت الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالفات مع عدد من الدول القريبة من الصين. فعلى سبيل المثال، تقوم أستراليا بدور كبير في هذا الإطار عبر سياسة التوجه الآسيوي، وما ترتب عليه من تحولات في استراتيجية الدفاع الأمريكية وانعكاسات ذلك على قمة “الناتو” الأخيرة في إسبانيا.
2- تفكيك التميز الاقتصادي: هناك محاولة أمريكية لتفكيك العولمة في إطار البعد الاقتصادي لمواجهة التحديات، إذ باتت الصين تحتل موقعاً أكثر اندماجاً من الولايات المتحدة، وهناك محاولات لكسر احتكار وتميز الصين، وفي السياق ذاته هناك محاولة لكسر الهيمنة الروسية على مجال الطاقة في أوروبا.
3- استدعاء الخطاب الأيديولوجي: تحاول الولايات المتحدة استعادة الأدوات التي استخدمتها في الحرب الباردة الأولى وهي تستعد لحرب باردة ثانية مع الصين وروسيا، من خلال خطاب أيديولوجي يعتمد على مواجهة العالم الحر للشمولية، وهو خطاب يضع الأنظمة الديمقراطية في مواجهة الأنظمة السلطوية.
وتطرق “توفيق” إلى انعكاسات الاستراتيجية الأمريكية على صياغة السياسة في الشرق الأوسط، في ضوء الرغبة في تأمين المصالح الأمريكية، مثل: تدفق البترول، وأمن إسرائيل، وتأمين الممرات المائية، ومكافحة الإرهاب، على النحو التالي:
1- محورية إيران في بناء السياسة الأمريكية: يبدو أن الدولة الوحيدة القادرة على تهديد المصالح الأمريكية هي إيران، وبالتالي فإن إيران هي محور السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وبناء على كيفية التعامل مع إيران تبدأ في عمل صياغة لتعاملها مع القضايا الأخرى في الشرق الأوسط.
وهناك إشكالية، فإذا تم الاتفاق النووي مع إيران فإن العقوبات سيتم رفعها بما يتيح توفير أموال تستغلها إيران في أنشطة تزعزع الاستقرار الإقليمي، وفي ظل هذه التخوفات هناك تفكير في التوازنات الإقليمية، وانتهزت أمريكا الفرصة لإدماج إسرائيل في النظام الإقليمي العربي، وهو هدف قديم، ولكن المناخ أصبح مهيأ الآن، سواء من خلال التعامل بشكل غير معلن أو بشكل علني.
2- تراجع طرح تشكيل “ناتو” شرق أوسطي: إذا نظرنا للمادة الخامسة في تشكيل تحالف شمال الأطلسي “الناتو”، فإن الدول الأعضاء تلتزم بالدفاع عن الأعضاء الآخرين، وعند الحديث عن “ناتو” شرق أوسطي، فإن هذا سيمثل التزاماً على الولايات المتحدة، وهي ليست مستعدة لمثل هذا الالتزام في المنطقة العربية، وبالتالي لا تسعى لتشكيل هيكل مماثل للناتو في المنطقة، وقالت هذا صراحة، وليست إسرائيل مستعدة لتقديم التزامات، ولكن نتحدث عن ترتيبات عملية براجماتية في مجال الدفاع الجوي، بعد الهجمات التي تعرضت لها السعودية والإمارات.
3- تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية: رغم أن بايدن في هذه الزيارة مر على إسرائيل والضفة الغربية، لكن لا يوجد تحرك جاد نحو إحياء عملية السلام وتجاه القضية الفلسطينية بصفة عامة، باستثناء بعض الكلمات العامة. ربما الرغبة الوحيدة هي احتواء الوضع في قطاع غزة، لكن القضية الفلسطينية لا يوجد اهتمام كبير بها.
تفاهمات متبادلة
في ضوء المحددات الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية، وانعكاساتها على منطقة الشرق الأوسط، يرى “توفيق” أن زيارة بايدن إلى السعودية ولقاء عدد من القادة العرب، أسفرت عن تفاهمات متبادلة بين الطرفين أبرزها:
1- تغير في سياسة فرض الديمقراطية بالعالم العربي: ثمة تغير في السياسة الأمريكية السابقة التي امتدت إلى ربع قرن لفرض الديمقراطية في العالم العربي، وهناك تحول منذ بضع سنوات باتجاه إعادة النظر في مسألة فرض الديمقراطية، خاصة أن هذه السياسة فشلت ولم تحقق المصالح الأمريكية، وهناك مفكرون أمريكيون طرحوا هذه الفكرة، وزيارة بايدن للمنطقة العربية تجسيد لهذه الفكرة، فأمريكا انتقلت لمرحلة جديدة، خاصة أن فرض الديمقراطية تشير إلى تغيير الأنظمة القائمة.
ولكن لا يعني التحول عن سياسة فرض الديقراطية، التوقف عن انتقاد الدول العربية، في ظل اعتماد الولايات المتحدة على سردية استراتيجية كبيرة تشير إلى مواجهة بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة السلطوية، وبالتالي فأمريكا ستستمر في توجيه الانتقادات الحادة فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وستكون هناك حساسيات مستمرة مع الدول العربية.
2- عدم ترك فراغ في المنطقة العربية لصالح الصين وروسيا وإيران: عبر الرئيس الأمريكي صراحة في خطابه أن الولايات المتحدة لن تترك فراغاً لصالح قوى أخرى، ولكنّ هذا لا يعني عودة السياسة الأمريكية إلى ما كانت عليه، هذه قضية لا تعني أيضاً أن الولايات المتحدة تتعهد بالالتزامات السابقة نفسها، ولكنها ستمارس ضغوطاً على بعض الدول العربية، فيما يتعلق بالتعاون القائم مع روسيا والصين.
3- استقرار أسعار النفط عالمياً: وهذا لا يعني بالضرورة تحديد سعر معين للنفط، ولكن هناك رغبة في عدم حدوث اهتزازات كبرى، وهذا يخدم الولايات المتحدة في هدفين، الأول: داخلي يرتبط بانتخابات التجديد النصفي في الكونجرس، والثاني: هدف استراتيجي لمنح أوروبا المهلة المطلوبة لكي تعدل موقفها وتجد بدائل للطاقة الروسية.
4- مزيد من إدماج إسرائيل بالمنطقة: وهو أيضاً يرتبط بهدف داخلي بالنسبة لإدارة بايدن، وما تحقق من عدم وجود قيود على حركة الطيران الإسرائيلية في المجال الجوي السعودي، فضلاً عن الترتيبات المتعلقة بإنهاء مهمة القوات متعددة الجنسيات في جزيرتي تيران وصنافير، وهو ما يُعد مكسباً لإسرائيل، وهذا لا يعني أن أمريكا لن تبذل جهداً في تحقيق هذه الأهداف، ولكن بموارد وجهد أقل مما كان في الماضي، وتعتمد على ترتيبات إقليمية.
بلورة رؤية
يؤكد “توفيق” أن العالم الآن يواجه تحديات بيئية وتزايد الهجرة وقفزات تكنولوجية لها أبعاد قد تكون سلبية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومحصلة هذا يعني مواجهة أزمات عالمية بشكل مستمر، وقبل انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية يُحتمل مواجهة أزمة عالمية أخرى، بما يستدعي من الدول العربية بلورة رؤية للتعامل مع الأزمات المتلاحقة، كالتالي:
1- وضع رؤى استراتيجية لاستيعاب الصدمات: التحدي الرئيسي في الفترة المقبلة هو القدرة على استبعاب الصدمات والتقدم رغم هذه الصدمات والتغلب عليها، وهي الكلمة المفتاح التي سنشهدها على المستوى الفردي والمجتمعي والدولي، ولا بد للعالم العربي أن يفكر كيف يكون قادراً على مواجهة هذه التحديات؟ ولن تكون هناك دولة قادرة على مواجهة التحديات بمفردها، والدول الخليجية ستتوفر لديها سيولة مالية كبيرة، من المهم أن تترجم ذلك بشكل استراتيجي، بمعنى أن الاختلال في الموازين الإقليمية ليس في صالح العالم العربي، فلماذا نجد أن إيران وتركيا لهما هذا الثقل المتزايد؟ هذه الدول ركزت على قدراتها الذاتية.
2- تشكيل “مثلث استراتيجي” نواة لنظام عربي: يمكن أن يكون المثلث المصري السعودي الإماراتي، نواة للنظام العربي، وأيضاً مجلس التعاون الخليجي + 3 وهو تكتل مهم جداً للبناء عليه، ويمكن إضافة دول أخرى.
3- موازنة العلاقات ومواجهة الضغوط الأمريكية: على الصعيد الدولي، سنجد أنه من الضروري للدول العربية وخاصة مصر الإبقاء على قنوات مفتوحة مع كافة القوى الدولية، وأيضاً الحفاظ على المصالح مع الولايات المتحدة، فالجانب الأمريكي يفضل أن تكون الدول العربية في صفه، ولو حدث هذا فستتراجع قيمة الدول العربية، ومصالح العرب مقاومة الضغوط الأمريكية، ويكون لدينا اهتمام كبير بموازنة العلاقات.
مأزق عربي
وأخيراً، أشار “توفيق” إلى مأزق عربي يتعلق بأنه في حالة التوصل لاتفاق مع إيران، فإن لديها موارد تستطيع أن تستخدمها في سياسات لا تخدم المصالح العربية، وفي حالة عدم التوصل لاتفاق فإن هذا يعني أن إيران ستتحول إلى دولة ذات قدرات نووية، ويعني قدرتها على امتلاك سلاح نووي في وقت وجيز جداً.