مثل القنبلة، اتفاقُ بكين السعودي – الإيراني حدثٌ كبيرٌ بكل المعايير. صداه يتردَّد وتأثيراتُه المستقبلية قد تكون أكبرَ من كل توقعاتنا. إنَّما علينا أن ننتظرَ لنرى عمقَه، وأبعادَه، والاحتمالات المكملة له في المستقبل القريب، من يدري قد يفتح أبواباً أوسعَ للنظام الأمني الإقليمي. وبالطبع، لا بدَّ أن نتفاءلَ بحذرٍ شديدٍ لأنَّه النظامُ الإيراني.
كثيرٌ من الإجابات مطلوب، عن أسئلة ملحة، ولا نعرف الكثير بعد. على ماذا الاتفاق؟ ولماذا الصين؟ ومن المستفيد؟ وما مواقفُ الآخرين المعنيين مباشرة، الأميركيين، والإسرائيليين، واليمنيين، والعراقيين، واللبنانيين، والسوريين، والقوى الإسلاموية المسلحة، والمنطقة عموماً؟
أولُ نتيجةٍ وُلدت في اتفاق بكين، عودة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين البلدين منذ عام 2016، وإدارة القضايا المعلَّقة التي أدَّت إلى القطيعة. في شهرين يفترض عودة البعثات الدبلوماسية، وإحياء اتفاقية التعاون القديمة التي وقعت عام 1998.
الكثيرون، وعن حق، يشكّكون في جدية الجانب الإيراني الذي سبقَ وتصالح مع السعودية نفسها 2001، وسرعانَ ما انتكست المصالحة، لأنَّها قامت على «حسن النية». أمَّا هذا الاتفاق فإنَّ ما يميّزه عمَّا سبقه هو الوسيط، الصين. الرئيسُ الصيني شخصياً هو من دعا السعوديةَ وإيران إلى بكين. والحقيقة بخلاف ما كتبه البعض متسائلاً، من أقنعَ طهران بالقبول، كانت المهمة الصعبة هي إقناع الرياض. فقد سبقَ وكرَّرت إيرانُ علانيةً منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي دعوةَ السعودية للتصالح، وإعادة العلاقات، وأن يزورَ مسؤولوها السعودية. جرت خمس جولات من التباحث بوساطة عراقية وعمانية، ولم تفلح في تحقيق التقدم.
لماذا الصين؟ لسببين مهمين؛ الأول إنَّها الدولة الوحيدة في العالم التي لها ميزة ذات قيمة كبيرة على البلدين معاً، leverage، الشريك التجاري الرئيسي لكل من السعودية وإيران. وهي وسيط مختلف عن العراقي والعماني بقدرتها على تقديم نفسها ضامناً. لا تستطيع حتى الولايات المتحدة أو روسيا ضمان الوعود الإيرانية. السبب الثاني أنَّ للصين مصلحة كبيرة في إنهاء النزاع السعودي – الإيراني، والتوصل إلى أمن إقليمي يحمي مصالحها. الصين تحصل على نصف وارداتها البترولية من المنطقة، نسبة هائلة، لا يمكن لاقتصادها أن يدورَ من دونها. أمَّا واردات واشنطن وموسكو من هنا فمحدودة. وغني عن القول أنَّه يندر أن يجدَ السعوديون والإيرانيون «صديقاً مشتركاً» مثل الصين، يمكن أن يثقوا به معاً.
لهذا رأينا الوسيطَ الصيني كان داخل الغرفة، مشاركاً في الأيام الأربعة، وليس دوره مقصوراً على تهيئة التباحث، كما فعل الوسطاءُ السابقون. يجلس بين الوفد السعودي برئاسة مستشار الأمن الوطني مساعد العيبان، يملك خبرةً طويلة في المفاوضات، ونظيره الإيراني علي شمخاني، أمين مجلس الأمن القومي.
دخول الصينِ لأول مرة في تاريخ الترتيبات الأمنية الكبرى في المنطقة قد يفتح الباب لإنهاء «الحالة الإقليمية الإيرانية»، التي بدأت في مطلع الثمانينات وتوسعت بعد اضطرابات ربيع 2011. خطوة كبيرة ومهمة، ولا بدَّ من القول إنَّ أسلوبَ إدارة ولي العهد السعودي الأزمة مع إيران في خمس سنوات، بما في ذلك في مراحلها الخطيرة، هو الذي أوصلنا إلى نتيجة واقعية مقنعة للإيرانيين بأنَّ خيارَهم هو التصالحُ وليس التهديد والفوضى. ونحن متفائلون بأن تقودَ وتكمل السعودية المصالحة، إقليمياً ودولياً، لكن من المبكر استقراء الوضع أبعد من هذا الاتفاق. الملفات الأخرى مترابطة ومتفجرة؛ أهمها مشروع إيران النووي لأغراض عسكرية، وهيمنة طهران على أربع عواصم عربية.
الامتحان الكبير هو اليمن. لطهرانَ دورٌ كبير في إدارة التمرد الحوثي، ولو تمكَّن الجانبان، برعاية الصين، من تهيئة الوضع لحل سلمي نهائي يوقف الحربَ، ويرمّم الشرعية، لكان ذلك وحدَه كافياً لإعلان نجاح اتفاق بكين. اليمن قضية تهمُّ العالمَ، حربها تهدّد ممرَ التجارة الدولية البحري، وتستوطن أرضَها تنظيماتٌ إرهابية، وتهدّد الحرب أمنَ السعودية. وفوق هذا، اليمن مأساة إنسانية مستمرة منذ احتلال صنعاء، وإسقاط الشرعية. إن نجحَ الطرفان في إحلال السلام باليمن، هذا سيعني وجودَ فرصة ثمينة لنسج نظام أمني إقليمي جديد، يُسهمُ في إنهاء أزمات العراق، ولبنان.
لا يمكن أن نتجاهلَ العوامل الأخرى المحيطة، مستفيدة أو متضررة. واشنطن أعلنت في اليوم نفسه عن إفراجها عن نصف مليار دولار «مستحقات» مالية إيرانية على العراق، ربما كانت خطوة مبرمجة سابقة للاتفاق، لكن للولايات المتحدة دورٌ مهمٌّ في هذا التطور الجديد.
مقالي المقبل عن الاحتمالات لاتفاق بكين وإشكالات الصراع الأخرى، تحديداً المعضلة الرئيسية؛ السلاح النووي.
نقلا عن الشرق الأوسط