ما إن قتلت أميركا الإرهابي الدولي قاسم سليماني في بداية يناير (كانون الثاني) 2020، حتى جن جنون النظام الإيراني، فعمد للضغط على كل ميليشياته في العراق والمنطقة لاستهداف الأميركيين بشتى الوسائل. وذهب بعض التحليلات إلى أن واشنطن بقتلها لأبرز قيادات نظام الملالي وصاحب مشروعها التوسعي في المنطقة، إنما تفتح الأبواب على مصراعيها للاحتلال الإيراني المباشر للعراق.
وما هي ألا أيام حتى تداعت شيعة إيران بتوجيه مباشر من طهران، وعقدوا جلسة للبرلمان، حضرها جميع الميليشيات والمكونات الشيعية، مثل ائتلاف المالكي، المسمى جزافاً “دولة القانون”، و”الفتح” للعامري، و”الحكمة” للحكيم، ومشاركة تكوينات تمثل الصدر الذي طالما أكد أنه ضد أميركا وضد إيران على السواء، وأنه يقف مع سيادة العراق.
وطالب ممثل الصدر في كلمته أمام جلسة البرلمان التي فاقت الجميع بمطالبها، طرد الأميركيين وقطع العلاقات مع أميركا وإغلاق سفارتها في بغداد. كانت المطالبة بخروج القوات الأميركية، وهي كلمة حق أريد بها باطل، لأن العراق الضعيف كان لقمة سائغة للتدخل الإيراني.
وعلى الرغم من الطعون القانونية التي استهجنت اتخاذ البرلمان العراقي لهذا القرار الاستراتيجي، بغياب ممثلي السنة، والأكراد، وبقية الأقليات في الطيف العراقي، وعلى الرغم من أن القرار لم يكن ملزماً، فإن طهران أرادت به التأكيد أنها صاحبة القرار الأخير في بغداد، واستمرت في ممارسة الضغط على رؤساء الوزراء لتنفيذه، فيما بقي ما قاله السني الوحيد أحمد الجربا ممثل الموصل الذي حضر الجلسة، صدى لمنطق تجاوزه الجميع نزولاً عند إرادة طهران.
ووجه الجربا سؤاله لرئيس حكومة تصريف الأعمال حينها عادل عبدالمهدي: هل سيكون بمقدور الحكومة الدفاع عن العراق في حال انسحبت قوات التحالف الدولي، وقوات العراق غير جاهزة، وهل سيتحول العراق لدولة تابعة لإيران؟ لم يكن عبدالمهدي مكترثاً بما سمعه، بل كان يحتفل فرحاً بنصر إخراج الأميركيين من العراق، وهو الذي عاد إليها من طهران بعد دخول الغزو الأميركي للعراق تحت عباءة المجلس الشيعي الإسلامي العراقي التي أنشأه الحرس الثوري في طهران.
ومع الأسف، ما زالت القوات المسلحة العراقية اليوم غير جاهزة حتى بعد أن انتهت المهام القتالية للجيش الأميركي في العراق ضمن التحالف الدولي لمواجهة داعش، وتحولها للاهتمام بالتدريب مع نهاية 2021، وفي المقابل باتت الميليشيات الموالية لإيران تنتشر في كل رقعة بالعراق وتحصل على الموارد اللازمة من خزانة الدولة العراقية والتسليح بالصواريخ الباليستية والمسيرات، وتعمل ضمن رؤية طهران الإقليمية لزعزعة الأمن والاستقرار.
ماذا يجري في بغداد؟
شكل قرار مقتدى الصدر في 12 يونيو (حزيران) الماضي، بالتنازل عن انتصاره الانتخابي، بنظر كثيرين هزيمة لمحاولات بناء الدولة العراقية بعيداً من التدخل الإيراني، وخيانة لقوى (ثورة 2019) التغييرية التي خرجت لشوارع بغداد والمدن العراقية الأخرى مطالبة بإسقاط حكومة عبدالمهدي، وإلغاء نظام المحاصصة الطائفية، ومكافحة الفساد، كما استهدفت الثورة وبرمزية واضحة القنصلية الإيرانية في النجف كرسالة لطهران بأن الشعب العراقي يرفض تدخلها في شؤونه الداخلية.
ويدعي الصدر امتلاكه رؤية عراقية مستقلة، ويعتبر خروجه من البرلمان ولجوئه إلى الشارع، ومطالبته بانتخابات مبكرة، سبيله لإعادة تشكيل المشهد السياسي العراقي بما يتفق مع توجهاته الإصلاحية، ولهزيمة نوايا الإطار التنسيقي، وخصمه اللدود نوري المالكي رجل طهران الأول في العراق. ومن هنا يرفض الصدر الدعوات المتكررة من طهران لالتزامه بما سماه خامنئي، بحكم الإطار السياسي الشيعي العظيم.
ويراهن الصدر على خبرته الطويلة مع الشارع وفي المعارضة وتحريك الجموع، وهو في هذه المناسبة يستغل الصيف العراقي في (آب اللهاب) لإشعال الغضب الشعبي ضد الحكومة بسبب غياب الخدمات الأساسية، وانقطاعات الكهرباء، وانعدام الوظائف. ويعتقد الصدر أن الإطار التنسيقي لا يمكنه تحقيق اختراق في البرلمان وتشكيل حكومة، وحتى لو نجح في تشكيل الحكومة فإنه يراهن على إسقاطها بالشارع.
من جهته، راهن المالكي والإطار التنسيقي على إسقاط جميع محاولات الصدر للنجاح في انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة مما دفعة للتنازل عن انتصاره البرلماني، عبر استخدام نظام الولاءات التي وفّرته له إيران، والعنف السياسي، والتأثير على القضاء. ويرى مراقبون أن تمسك الأطراف الشيعية الرئيسة بسقوفهم العالية ورفضهم التنازل يصعب من احتمالية نجاح الوساطات، فيما تبقى دعوة الكاظمي لجميع الأطراف للجلوس على طاولة الحوار لبحث المخارج الممكنة هي السبيل لفك العقدة العراقية، وقطع الطريق على تدخلات قاآني المتكررة وإملاءات طهران التي تعبث في الشأن العراقي.
نقلا عن اندبندنت عربية