بعث الحيوية فى النظام العربى – الحائط العربي
بعث الحيوية فى النظام العربى

بعث الحيوية فى النظام العربى



فى عام 1979، صدرت الطبعة الأولى من الكتاب الذى ألفته مع صديق العُمر الأستاذ جميل مطر بعُنوان النظام الإقليمى العربي. لم يكن هذا التعبير مألوفًا وقتذاك، ولكنه سُرعان ما ذاع وانتشر وأصبح جزءًا من مُفردات القاموس السياسى العربى بين الأكاديميين والدبلوماسيين والإعلاميين، وصدرت عشرات الكُتب ومئات البحوث التى حملت عنوان النظام العربى أو النظام الإقليمى العربي.

هدف الكتاب إلى تطبيق مفهوم النظام الإقليمى وهو مفهوم تحليلى فى حقل العلاقات الدولية، واستخدامه كإطار نظرى لفهم العلاقات بين الدول العربية، وحمل الكتاب عنوانًا فرعيًا هو “دراسة فى العلاقات السياسية العربية”.

سعى الكتاب لدراسة العلاقات العربية كنسق من التفاعُلات الرسمية التى تدور داخل جامعة الدول العربية ومؤسساتها المُتخصصة، وفى المؤسسات غير الرسمية كالنقابات والجمعيات والاتحادات العربية فى كل المجالات، والتفاعُلات غير المؤسسية بين الشعوب العربية.

درسنا فى هذا الكتاب نشأة الجامعة العربية، باعتبارها أقدم مُنظمة إقليمية سبقت فى قيامها الأمم المُتحدة وتطور عدد أعضائها من سبعة فى عام 1945 إلى 22 حاليا. وركزنا على البُعد الثقافى والقومى لها، فأعضاؤها يرتبطون فيما بينهم بروابط ثقافية وتاريخية وحضارية، وأذكر أن الأستاذ محمود رياض أمينها العام الأسبق كان يُردد أن الجامعة العربية هى أقوى تنظيم إقليمى فى العالم وأكثرها تميُزًا، فهى المنظمة الوحيدة التى يتحدث جميع أعضائها لغة واحدة،وجلساتها لا تحتاج إلى ترجمة فورية إلا فى الحالات التى يوجد فيها ضيوف أجانب.

كان أول تحد واجه المُنظمة الوليدة هو مشكلة فلسطين، فدعت مصر إلى عقد أول مؤتمر قمة عربية غير عادية فى أنشاص عام 1946. وعلى مدى الحقب التالية، جرت مياه كثيرة فى بِحار السياسة العربية وتنوعت أشكال التعاون والتقارب من ناحية، والخلافات والانقسامات من ناحية أخرى حول موضوعات السياسة الداخلية والخارجية. وسمح ذلك لدول الجوار الجُغرافى غير العربية بالتدخل ودعم فريق عربى ضد آخر.

ومع ازدياد عدد الدول الأعضاء فى الجامعة واختلاف نظمها السياسية والاقتصادية ومواقفها الخارجية، دب الوهن فى مؤسسات النظام العربى وذلك لأنه وفقًا لميثاق الجامعة، فإنها منظمة تجمع بين دول مُستقِلة تقوم على مبدأ احترام سيادة كُل دولة. ومن ثَم، فإنها لا تمتلكُ إرادة مُستقلة أو اختصاصًا ذاتيًا يعلو سُلطات الدول المُكوِنة لها. الجامعة العربية هى مرآة تُصور حالة النزاع أو التوافُق بين أعضائها، فإذا اختلفوا ضعفت مؤسساتها وتعثر عقد اجتماعاتها أو انعقدت بشكل صورى وشكلي، وإذا اتفقوا وتوافقوا نشطت مؤسساتها وانتظمت اجتماعاتها وحسمت الأمر فى الموضوعات المعروضة عليها.

ولفترة، ساد اعتقاد بين بعض النُخب العربية الحاكمة، أن هُناك تعارضًا بين المصالح الوطنية لكُل دولة والمصالح العربية العامة.فتبنى موقف الشك والريبة من برامج وخطط التكامُل السياسى والاقتصادى باعتبار أن هذا التكامُل سوف يعود بالخير على البعض وعلى حساب البعض الآخر.

وشهدت الحقبة الثانية من القرن الحادى والعشرين تعميق الانقسامات، واستثمار بعض الدول العربية مواردها لدعم هذا الطرف أو ذاك فى الصراعات والحروب الأهلية العربية. وكان أكبر مثال لذلك ما حدث فى سوريا، وتجميد عُضويتها فى الجامعة عام 2011. كان لهذا التوجه حدوده، ولم يُحقق الاستثمار فى الصراعات الداخلية أهدافه، وفتح الباب واسعًا أمام ازدياد تأثير التنظيمات المتطرفة والميليشيات العسكرية والتدخُلات غير العربية الإقليمية والدولية.

فترتب على هذا الإدراك، بروز اتجاه مُخالف نحو التعاون والتقارب، تمثل أولًا فى التعاون الثلاثى بين مصر والعراق والأردن، والذى بدأ بدعوة الرئيس السيسى لأول لقاء لقادة هذه الدول فى 2019، ثُم انعقاد مؤتمر العُلا فى السعودية في2021، والذى أنهى القطيعة بين كُل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر من ناحية وقطر من ناحية أخرى، وعادت العلاقات الدبلوماسية بينها فيما عدا بين الإمارات وقطر. وتتالى انعقاد الاجتماعات الرسمية بين القادة العرب وكان من أهمها القمة العربية فى الجزائر فى نوفمبر 2022 وشعارها “لم الشمل”، وكذلك الاجتماعات غير الرسمية فى شكل لقاءات تشاورية بينهم على مدى عامى 2021 و2022.

أدت هذه التحركات إلى تغير فى بيئة العلاقات العربية والإقليمية. فعلى المُستوى العربي، برزت لهجة المُصالحة والوفاق والتعامُل مع القضايا المُعلقة بروح واقعية. وعلى المُستوى الإقليمي، تحسنت العلاقات بين تُركيا وأغلب الدول العربية، ومع إيران كان الاتفاق السعودى الإيرانى فى مارس 2023 نُقطة تحول لتخفيف التوتر فى بعض الصراعات والتحرك لتسويتها ومن ذلك الاتفاقات التى حدثت لتبادُل الأسرى وقرار الجامعة العربية بعودة سوريا لشغل موقعها الشاغر منذ 2011.

جاءت قمة جدة فى 19 مايو 2023 نتيجة لتراكُم عدد من الخُطوات والإجراءات التى تمت على مدى سنوات وشهور، وكانت عناوينها ما ظهر فى خطابات القادة العرب مثل عدم السماح بأن تكون المنطقة العربية ميدانًا للصراع والاستقطاب الدولي، وطى صفحة الخلافات التى شهدتها المنطقة فى السنوات الماضية، ورفض التدخُلات الأجنبية فى الشئون الداخلية للدول العربية، وإعطاء الأولوية لدعم مؤسسات الدولة الوطنية، وتأكيد استثمار الفُرص، وتعزيز قيم الحوار والتسامح والانفتاح، وما نص عليه إعلان جدة من أننا نؤكد أن التنمية المستدامة،والأمن، والاستقرار، والعيش بسلام، حقوق أصيلة للمواطن العربي.

تُمثل قمة جدة نقطة تحول مهمة لبعث الحيوية فى مؤسسات النظام العربى وأبرزها جامعة الدول العربية ولتطوير نظم عملها وزيادة فاعليتها، ولكى يتحقق ذلك ينبغى الحفاظ على روح المصالحة والواقعية التى أوصلتنا إلى جدة، وأن نكرسها باستمرار.

نقلا عن الأهرام