حدود الدور:
أبعاد الموقف الفرنسي من الحرب الإسرائيلية في غزة

حدود الدور:

أبعاد الموقف الفرنسي من الحرب الإسرائيلية في غزة



كانت تداعيات استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، التي دخلت شهرها الثالث، وارتفاع عدد القتلى والجرحى، واستهداف البنى التحتية بالقطاع، على أجندة زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، لإسرائيل والأراضي الفلسطينية ولبنان خلال يومي ١٧ و١٨ ديسمبر الجاري.

وتأتي الزيارة في إطار الجهود الفرنسية لممارسة دور دبلوماسي مؤثر في الأزمة، والتحول في موقف باريس الذي اتسم بالتأييد القوي للعملية العسكرية الإسرائيلية بعد أيام قليلة من عملية “طوفان الأقصى”، التي نفذتها حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي، وتبني الرئيس ايمانويل ماكرون سياسة متوازنة من التصعيد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية.

معارضة داخلية

بعد خمسة أيام من عملية “طوفان الأقصى”، حث الرئيس ماكرون، في خطاب له، إسرائيل على إظهار رد قوي على هجوم حركة حماس، مؤكداً حقها في الدفاع عن نفسها، مع توجيه إدانات قوية للعملية العسكرية التي نفذتها الحركة، والتي وصفها بـ”الجماعة الإرهابية”. ويأتي الرد الفرنسي القوي على العملية لأنه نتج عنها مقتل 13 مواطناً فرنسياً.

وقد حظرت فرنسا جميع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين بعد الهجوم الذي شنته حركة حماس على إسرائيل، بحجة أن مثل هذه الاحتجاجات تهدد النظام العام. ودعا وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، إلى اعتقال المنظمين لتلك الاحتجاجات وكذلك لأي مثيري شغب. وقد طالب المدعي العام الفرنسي لمكافحة الإرهاب بفتح تحقيق أولي في هجوم حماس على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، كونه “عملاً إرهابياً” واختطاف أشخاص بينهم قصّر.

وقد أثار موقف الرئيس الفرنسي من الحرب الإسرائيلية في غزة اعتراض عدد من الدبلوماسيين الفرنسيين، وهو موقف نادر أن يُعبر الدبلوماسيون عن معارضتهم لسياسات ومواقف الحكومة الفرنسية. فقد أشار تقرير لصحيفة “بوليتيكو”، في ٢٢ نوفمبر الماضي، إلى أنّ الإحباط لدى الدبلوماسيين الفرنسيين نشأ نتيجة اقتراح ماكرون إعادة توسيع التحالف الدولي الذي يحارب تنظيم “داعش” في العراق وسوريا ليشمل أيضاً محاربة حركة حماس، لكونه فاجأ الدبلوماسيين ‏الفرنسيين، وكذلك أثار انتقادات أحزاب المعارضة الفرنسية. وقد أشار التقرير إلى وثيقة داخلية مسربة من وزارة الخارجية الفرنسية تضمنت انتقادات من الدبلوماسيين بسبب تصريحات ماكرون الداعمة لإسرائيل بشكل كبير، وقد رأى عديد من الدبلوماسيين أنها تمثل خروجاً على السياسة الفرنسية التقليدية القائمة على تطوير العلاقات مع دول العالم العربي.

تغير تدريجي

شهد الموقف الفرنسي من استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية وارتفاع عدد القتلى من النساء والأطفال تغيراً، حيث تبنى ماكرون تدريجياً موقفاً أكثر انتقاداً تجاه إسرائيل، وانضم إلى الدعوات لوقف إطلاق النار في غزة، ولكنه -في الوقت ذاته- لا يزال يؤكد على ضرورة إدانة حركة حماس بسبب هجومها في 7 أكتوبر الماضي. وتتمثل أبرز ملامح الموقف الفرنسي فيما يلي:

١- قيود على العمليات العسكرية الإسرائيلية: دعا ماكرون، في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، في ١١ نوفمبر الماضي، إسرائيل إلى وقف حملة القصف الانتقامي ضد حركة حماس؛ لأنها تقتل النساء والأطفال، مع عدم التراجع عن التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وذكر أن وقف إطلاق النار سيفيد تل أبيب. ورغم رفضه القول إن الأخيرة انتهكت القانون الدولي في غزة، فإنه صرح بأنه لا يوافق على أن “أفضل طريقة لإسرائيل لحماية نفسها هي القيام بقصف كبير لغزة”، لأن ذلك يخلق “استياء ومشاعر سيئة” في المنطقة من شأنه أن يطيل أمد الصراع. وقد دعا الحكومة الإسرائيلية إلى تحديد أهدافها في قطاع غزة.

ووصف منتقدو ماكرون سياسته بأنها غير منتظمة، فلم تتبنَّ خط الدعم القوي لإسرائيل الذي قدمته الحكومتان البريطانية والألمانية، ولا الموقف الأكثر انتقاداً مثل موقفي رئيسي الوزراء الإسباني والبلجيكي. بينما قال حلفاؤه إنّ وجهات نظره تطورت مع تزايد عدد القتلى بين المدنيين الفلسطينيين خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية، ومع تزايد التساؤلات حول خطة اليوم التالي للحرب، وكذلك تزايد الانتقادات الدولية، ولا سيما الأمريكية، التي تعارض الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في غزة، وتزايد الاعتقاد بأن تل أبيب تتجه نحو هزيمة استراتيجية إذا واصلت مسارها الحالي.

ومع بدء المرحلة الثانية من الهجوم العسكري على القطاع بعد انقضاء الهدنة الإنسانية المؤقتة، التي استمرت سبعة أيام، كثف ماكرون انتقاداته للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، قائلاً إن هدفها المعلن المتمثل في القضاء على حركة حماس قد يستغرق عقداً من الزمن، ويثير استياء الرأي العام بأكمله في المنطقة، وأن على السلطات الإسرائيلية تحديد أكثر دقة لأهدافها في غزة، وأن الرد المناسب على حركة حماس ليس قصف القدرات المدنية بأكملها.

٢- عقد مؤتمر دولي لمساعدة غزة: نظم الرئيس ماكرون مؤتمراً دولياً حول مساعدة غزة في 9 نوفمبر الماضي، لبحث إجراءات ملموسة لإيصال المساعدات في وقت لا يصل فيه سوى القليل من المساعدات إلى سكان القطاع، بينما تواصل إسرائيل عمليتها العسكرية ضد مقاتلي حركة حماس. وقد تعهد زعماء الدول المشاركة في المؤتمر بتقديم مساعدات تتجاوز قيمتها مليار يورو إلى القطاع. ومن المفترض أن يُستخدم جزء كبير من هذه المساعدات لتلبية احتياجات منظمة الأمم المتحدة لمساعدة سكان غزة والضفة الغربية المحتلة، والتي تقدر بنحو ١.٢ مليار دولار حتى نهاية العام. وتعهد ماكرون بأن تزيد باريس مساعداتها لغزة من ٢٠ مليون يورو إلى ١٠٠ مليون يورو.

٣- الدعوة لهدنة إنسانية جديدة: تنقسم دول الاتحاد الأوروبي حول حث إسرائيل على تنفيذ وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية لإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وهو الأمر الذي تجلى في تصويتها على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في ٢٧ أكتوبر الماضي الذي يدعو إلى هدنة إنسانية فورية ودائمة ومستدامة تؤدي إلى وقف الأعمال العدائية. وفي ١٢ ديسمبر الجاري طالبت بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، والإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، فضلاً عن ضمان وصول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، وقد أيدت باريس القرارين. وصوّتت فرنسا لصالح قرار في مجلس الأمن الدولي في ٨ ديسمبر الجاري لوقف إطلاق النار، بينما امتنعت بريطانيا عن التصويت، واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض.

وقد دعت وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، خلال لقائها مع نظيرها الإسرائيلي، إيلي كوهين، إلى هدنة فورية ودائمة في غزة، وأشارت إلى أن باريس تشعر بقلق عميق إزاء الوضع المستمر في قطاع غزة مع الارتفاع الكبير في عدد القتلى من المدنيين. وترى كولونا أن التوصل إلى هدنة جديد أمر ضروري للاستمرار في الإفراج عن الرهائن، وكذلك لإدخال مزيدٍ من المساعدات الإنسانية.

٤- تجنب التصعيد بين إسرائيل وحزب الله: اندرجت زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، إلى لبنان التي تأتي بعد زيارات متعددة لمسئولين فرنسيين من وزارتي الخارجية والدفاع، في إطار المساعي الفرنسية لتجنب تحول التصعيد بين إسرائيل وحزب الله إلى حرب شاملة، حيث تتزايد المخاوف الفرنسية من اتساع نطاق العمليات العسكرية الإسرائيلية، مع استهداف المليشيات المدعومة من إيران للقوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها في العراق وسوريا، وتبادل إطلاق النار على طول حدود إسرائيل مع لبنان. وينطلق الدور الفرنسي من تطبيق قرار الأمم المتحدة رقم ١٧٠١، حيث بحثت الوزيرة الفرنسية خلال زياراتها لإسرائيل ولبنان الصيغة المناسبة للبدء بتطبيق القرار.

٥- فرض عقوبات على طرفي الصراع: في إطار بحث فرنسا عن موازنة في موقفها من العمليات العسكرية الإسرائيلية، أصدرت مرسوماً في 5 ديسمبر الجاري يقضي بتجميد أصول زعيم حركة حماس في غزة، يحيى السنوار، الذي تعتبره إسرائيل العقل المدبر لهجوم 7 أكتوبر، لمدة ستة أشهر. وفي مرسوم مماثل في ١٣ نوفمبر الماضي، أعلنت باريس أنها ستجمد لمدة ستة أشهر أصول محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام- الجناح العسكري لحركة حماس.

وفي المقابل، اقترحت فرنسا على الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على مستوطنين إسرائيليين يستهدفون الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، لكن بعض الدول الأوروبية -بحسب دبلوماسي أوروبي- لا تحبذ هذه الفكرة، إلا أن رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، أعلنت أنها تؤيد فرض عقوبات على المتطرفين من المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، لأن ذلك يعرض احتمالات سلام دائم للخطر، ويمكن أن يفاقم عدم الاستقرار الإقليمي.

قيود عديدة

يعول عديد من الدبلوماسيين الفرنسيين على العلاقات الشخصية الجيدة التي يؤسسها ماكرون مع عديد من قيادات الدول المؤثرة في الملف الفلسطيني، في أن تمارس فرنسا دوراً دبلوماسياً بعد انتهاء إسرائيل من عملياتها العسكرية في غزة. ولكنّ هناك قيوداً على فرص نجاح هذا الدور لعدة أسباب، من أبرزها الإخفاق الفرنسي في التوصل إلى اتفاق سياسي جديد في لبنان في أعقاب تفجير مرفأ بيروت في عام ٢٠٢٠، والذي كان أولوية فرنسية، فضلاً عن أن التوصل إلى اتفاق لبناني-إسرائيلي لإنهاء النزاع البحري تم التوصل إليه من جانب الولايات المتحدة وليس فرنسا؛ وهو ما يكشف عن حدود الدور الفرنسي الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن.

وهناك إدراك فرنسي لأن باريس لن تستطيع بمفردها أن تقوم بدور رئيسي في الجهود الدبلوماسية لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، في ظل الحاجة إلى إجماع دولي ودور الولايات المتحدة الذي يظل مركزياً في الملف الفلسطيني-الإسرائيلي.