يدرك الحزب الديموقراطي أن استهتار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالرئيس الأميركي جو بايدن سيكون مكلفاً لمستقبل الحزب وسعيه للاحتفاظ بالبيت الأبيض، ما لم يتصدّ بايدن وكبار القادة الديموقراطيين جدياً لنتنياهو وإهاناته ورهانه على الوزن الإسرائيلي في معادلة الانتخابات الرئاسية الأميركية. باتت المعركة بين مصيرين: مصير الرئيس الأميركي الذي يخوض انتخابات رئاسية صعبة سيخسرها أمام المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالتأكيد، إذا بقي ضعيفاً أمام رئيس وزراء اسرائيلي يراهن على الاستمرار في إغداق الأسلحة على إسرائيل في زمن الحرب مهما تحدّت وتجاوزت الحدود، ومصير رئيس وزراء إسرائيل – وحكومته اليمينية المتطرفة – الذي يعتبر معركته وجودية له شخصياً لأنه يتوقع نهاية بشعة ما لم يتلق تطمينات في إطار صفقة سرية تضمن له ألا يُحاكم. المتفرج المبتسم هو الرئيس السابق دونالد ترامب الذي يجد في المبارزة بين بايدن ونتنياهو ذخيرة ثمينة له، إذ إنها تكشف ضعف بايدن وازدواجية سياساته المتخبطة على وقع وقاحة نتنياهو.
بغض النظر عما إن أدت الجهود الدبلوماسية الأميركية إلى ما يسمى بـ”استراحة السلم” peace pause أو “استراحة المحارب” بين إسرائيل و”حماس”، لقد وقع الأذى. بل إن ما يتبع تلك الاستراحة – المتوقعة عند كتابة هذه المقالة لكن غير المضمونة – إنما يشكل تحديات أكبر للرئيس بايدن لأن الهدن الإنسانية عابرة وموقتة. أما الحلول السياسية الدائمة فإنها الأصعب.
زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي تشاك شومر، دخل الحلبة في سابقة لا يُستهان بها في العلاقات بين إسرائيل ومجلس الشيوخ أو مجلس النواب الأميركي، حيث التعاطف مع إسرائيل تحت أي ظرف كان تلقائياً، ليس عاطفياً فحسب بل خوفاً من ردود فعل تقاصص رجال الكونغرس ومستقبلهم السياسي.
وجّه شومر في خطاب أمام مجلس الشيوخ انتقادات حادة إلى نتنياهو واعتبره “عقبة كبيرة أمام السلام”، مشيراً إلى أنه “خضع في كثير من الأحيان لمطالب المتطرفين”. قال إنه “إذا استمرت حكومة نتنياهو في السلطة بعد الحرب، يجب على أميركا أن تعمل بفاعلية أكبر لتحقيق السلام الشامل”. دعا إلى إجراء انتخابات جديدة في إسرائيل. والأهم أنه لم يكتفِ بالحديث عن وقف النار والإفراج عن الرهائن والمعاناة الإنسانية للفلسطينيين بسبب حرب إسرائيل على غزة، بل أخذ الخلاف إلى المرتبة السياسية الضرورية، إذ قال إن رفض إسرائيل حل الدولتين “خطأ فادح” يجب استدراكه.
أتى خطاب شومر الذي ينتمي إلى الحزب الديموقراطي وسط مواجهة سياسية بين الرئيس بايدن وبنيامين نتنياهو، وإنذار أميركي بأن تجاوز نتنياهو وحكومة الحرب للشروط الأميركية واقتحامها رفح “خط أحمر”، نظراً إلى الكارثة الإنسانية المترتبة على عملية رفح.
تشاك شومر ليس اسماً هامشياً في مجلس الشيوخ أو داخل الحزب الديموقراطي، وهو أبعد وآخر مَن يمكن اتهامه بالعداء لإسرائيل، بل إنه بين أكبر مؤيدي إسرائيل في أميركا. اتخذ شومر مواقفه بسبب قناعته بأن استمرار الرئيس جو بايدن في تلقي الضربات المهينة من بنيامين نتنياهو سيؤدّي إلى خسارة بايدن السباق مع ترامب على البيت الأبيض. هكذا وبكل بساطة. فالناخب الأميركي لا يحترم رئيساً له يرضى بالذل على أيدي أي زعيم أجنبي حتى ولو كان رئيس وزراء إسرائيل، الابن المدلل لأميركا.
حسابات شومر انتخابية بقدر ما هي ناتجة من قناعاته السياسية. رسالته إلى القادة الإسرائيليين هي أنهم يعرّضون الحزب الديموقراطي للانقسامات الحادة المضرّة بالحزب، كما يدفعون بالرئيس بايدن إلى حافة الانتحار السياسي. فشومر ضليع في فهم المعادلات الانتخابية، وهو استنتج على الأرجح أن استمرار تعنّت إسرائيل وازدرائها بالرئيس الديموقراطي الذي لم يتوقف عن تسليحها بصلاحيات رئاسية استثنائية، إنما هو ورقة النعوة للمرشح الديموقراطي للرئاسة الأميركية.
القادة الإسرائيليون في السلطة أسرعوا إلى التشديد على أن إسرائيل مستقلة وسياسات نتنياهو تحظى بدعم شعبي. حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو أصدر بياناً جاء فيه أن “إسرائيل دولة ديموقراطية مستقلة وفخورة انتخبت رئيس الوزراء نتنياهو، وليست جمهورية موز”. صعّد الليكود ضد شومر متسلحاً بأن “الجمهور الإسرائيلي يؤيد النصر الكامل على “حماس”، ويرفض أي إملاءات دولية لإقامة دولة فلسطينية إرهابية، ويعارض عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة”. بل إنه خصّ السيناتور الأميركي بمحاضرة فوقية متابعاً أن المتوقع منه “أن يحترم حكومة إسرائيل المنتخبة وألا يقوّضها”.
نتنياهو وحزبه ضربا بتحذير شخصية مرموقة في الحزب الديموقراطي وكذلك بمطالب الرئيس الأميركي عرض الحائط، إذ إنه أعرب عن تصميمه على تنفيذ عملية رفح بغض النظر عن “الخط الأحمر”. بيان الليكود أوضح أيضاً رفضه تسليم قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية وإصراره على إدارة القطاع والحرب كما يشاء.
الحزب الجمهوري أسرع عبر زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، إلى انتقاد زعيم الأكثرية الديموقراطي ووصف مواقفه بتعابير “البشع والنفاق”، لأنها تدعو إلى “إزالة زعيم منتخب ديموقراطياً لإسرائيل”، في الوقت الذي يرفض منه التدخل في الديموقراطية الأميركية. كذلك أسرع الجمهوري مايك جونسون البارز في مجلس النواب إلى عقد مؤتمر صحافي لينتقد مواقف شومر ويصفها بالخاطئة وغير الملائمة inappropriate ومطالباً بـ”الوقوف بجانب إسرائيل وضرورة مد أصدقائنا وحلفائنا بالدعم الكامل”. هذه المزايدات الانتخابية إنما تزيد من الانقسامات الأميركية، لكن في نهاية المطاف، إن الذي يدفع الثمن هو الرئيس في البيت الأبيض وليس المرشح للرئاسة. فهو في الواجهة.
فريق بايدن يدرك مدى توريط إسرائيل له عمداً رغم شحنات الأسلحة المستمرة التي فاقت المئة شحنة بعيداً عن موافقة الكونغرس. مشكلة هذا الفريق تكمن في افتقاده القدرة على الحزم واعتماده الدبلوماسية الناعمة الهادفة إلى الإقناع والاسترضاء. إنه فريق اللامواجهة مع إسرائيل ومع إيران.
للعدل، نجح فريق بايدن حتى الآن في لجم إسرائيل وإيران وإقناعهما بصورة أو بأخرى بعدم توسيع رقعة الحرب. هذا إنجاز. نجح في دفع السلطة الفلسطينية إلى تحمّل مسؤولياتها والبدء بإصلاحات في داخل هيكلها، فاستقال رئيس الحكومة وأتى مكانه محمد مصطفى وهو مستشار اقتصادي مستقل يفهم لغة الإصلاح رحّب البيت الأبيض بتعيينه. مصطفى كان قد اضطلع بدور رئيسي في إطلاق برنامج إعادة إعمار قطاع غزة عام 2014 عندما شغل منصب نائب رئيس الوزراء في حكومة الوفاق الوطني التي شُكِّلت بمشاركة “حماس”، كما كان قد شغل منصب رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني ويتمتع بخبرة دولية بعدما عمل في البنك الدولي في واشنطن لفترة 15 سنة.
الإنجاز الآخر لفريق بايدن هو العمل المستمر وراء الكواليس مع قيادات عربية تلعب أدواراً مهمة نحو تحقيق “استراحة السلام” كما نحو التهيئة لعناصر التسوية الدائمة.
بين مشكلات فريق بايدن ونقاط ضعفه أنه ليس حازماً مع إسرائيل ولا مع إيران. كلتاهما استغلت لطف دبلوماسيته لأن كلتيهما تثق بأن الرئيس بايدن ليس رجل الإقدام والمغامرة. كلتاهما تنظر إلى بايدن على أنه رئيس نصف الخطوات. وهذا ما أدّى به لأن يكون رئيس الخطوة الناقصة.
المفاوضات السرية بين إدارة بايدن ورجال طهران ستبقى في إطار الخطوة الناقصة ما دامت ترقيعية وانتقائية متلكّئة في تناول أذرع إيران بصورة جازمة وفي كل مكان، من اليمن إلى العراق وسوريا إلى لبنان. فلا يجوز القبول بمزاعم إيران بأن الحوثي في اليمن خارج نفوذها لأنها هي من مد الحوثي بالصواريخ التي تُستخدم لضرب سلامة الملاحة الدولية.
ولا يجوز الاسترخاء مع إيران فيما “حزب الله” التابع لقراراتها الاستراتيجية يدخل في لعبة “قواعد الاشتباك” الخطيرة مع إسرائيل ويعرّض لبنان لخطر الوقوع في فخ الاستفزازات الإسرائيلية واستفزازاته. إيران مسؤولة، فهي صاحبة قرار السلم والحرب للبنان مع إسرائيل. على الرئيس بايدن أن يكون حازماً وجازماً مع القيادات الإيرانية التي هي في حاجة إليه، لا سيّما أنها لا تتمنى له خسارة البيت الأبيض. وإلا، فإن إيران أيضاً ستورطه، وليس فقط إسرائيل.
التفادي بمفرده لا يشكل سياسة. التسويف والمماطلة ليسا سياسة. العلّة أساسية لدى الرئيس بايدن وفريقه هي التفادي والتسويف وأنصاف الحلول على نسق عدم معارضة عملية إسرائيلية في رفح ما دامت ترأف بالمدنيين. فهذا أمر مستحيل مهما تم تصويره بأنه ممكن.
صلب الموضوع هو التهجير، إذ نفّذت إسرائيل سياستها وعقيدة حزبها الحاكم بأن يكون تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء أساساً لمستقبل غزة. فرضت إسرائيل ذلك كأمر واقع رغم “معارضة” أميركية ودولية وعربية مستفيدة بذلك من 7 تشرين الأول (أكتوبر) الذي تعتبره “حماس” إنجازها الكبير، فيما في الواقع إنه إنجاز قدمته “حماس” إلى إسرائيل.
المشاحنات بين الرئيس الأميركي وأقطاب الحزب الديموقراطي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي وحزبه المتطرف لن تأتي بفائدة على مستقبل بايدن والحزب الديموقراطي في البيت الأبيض. جو بايدن، المرشح لولاية ثانية، سيخسر السباق أمام دونالد ترامب بالتأكيد إذا استمر بالتلكؤ والتفادي خوفاً من عواقب الجرأة والإقدام بحزم الدولة العظمى.
نقلا عن النهار العربي