مع الربع الرابع من العام الأول في عهد الرئيس الأميركي السادس والأربعين جوزيف بايدن يبدو البيت الأبيض وكأنه قد مرّ بمرحلتين، كانت أولاهما حلوة والأخرى مرّة، وهو الآن يحاول أن يجعل مما سوف يأتي عودة إلى ما كانت عليه الأمور في البداية.
البداية كان قد حكمها أمور كلها صبّت لصالح الرئيس الجديد بعد انتخابه بأغلبية مريحة، وعلى شخصية دونالد ترمب وهي قيادة تراكمت على رأسها كل مثالب النظام السياسي الأميركي الحالية من تفكك وانقسام وبعد الشقة بين الحزبين الرئيسيين. وعندما دخل الرئيس البيت الأبيض كان أشبه بالمخلص الذي ينجي أميركا من سوءاتها التي ظهرت في أكثر أشكالها قبحاً في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أيام من تبادل السلطة في الدولة الأميركية. كان شعار «كل شيء ما عدا ترمب» متوافقاً مع المزاج الأميركي العام الذي بدا مذعوراً من الحالة الأميركية التي باتت على هوة حرب أهلية جديدة أو صدام عنصري، أو انقلاب على السلطة السياسية كلها، وصدام مع العالم كله. كان إصرار ترمب على فساد العملية الانتخابية وذيوع التزوير والتلاعب فيها مشابهاً لأحداث تجري في العالم الثالث، حيث لا تجري انتخابات دون تشكيك في شرعية ومشروعية النتيجة. في المقابل، كان بايدن مبشراً بعودة أيام «الزمن الجميل» للاتزان والاستقرار والمؤسسات والنخبة التي تعرف كيف تمارس السياسة. لم يكن بايدن وجهاً جديداً على الحياة الأميركية، فقد جاء إليها من ماضٍ بعيد كان فيها جزءاً من المؤسسة التشريعية للكونغرس، بدءاً من العضوية إلى القيادة، وحتى بات لثماني سنوات نائباً للرئيس باراك أوباما، مزوداً بالحكمة التي تأتي بها السن والخبرة وتجارب السنين. وهنا جاء بايدن الأول وسط حفل ترحيب من الإعلام الليبرالي الديمقراطي لكي يقود ويعيد الأمور إلى نصابها مرة أخرى، ومن ناحيته لم يبخل في الحديث عن القيادة الأميركية في العالم، وأنها سوف تكون في الخارج كما في الداخل بالمثال والنموذج. النتيجة كانت ارتفاعاً متواتراً في تأييد بايدن لدى الرأي العام.
كانت قضية «كوفيد – 19» ناضجة بما يكفي لإدانة ترمب من ناحية ومنح بايدن الفرصة ليعطي الشعب أولى علامات النجاح والبشارة بالعودة إلى الحياة الطبيعية مرة أخرى من خلال سياسة مستقرة ويد ثابتة انتهى عندها عهد التخبط وتجاوز العلم والمعرفة. وهكذا مع وضع برنامج واضح للخروج من الأزمة مع حلول شهر يوليو (تموز)، وبث برامج كبيرة عدة لتحفيز الاقتصاد بدأت بالحرب ضد الفيروس التاجي، ولم تنته ببرنامج جبار لتجديد البنية الأساسية في الداخل، وفي الخارج إعلان حالة من إعادة التموضع الأميركي في العالم تعود به إلى أحضان أمثالها من الدول المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً والغربية الثقافة ليبرالياً وديمقراطياً. وجاء جزء من حالة بايدن الأولى زيارات إلى المملكة المتحدة وحضوراً لقمة الدول السبع وإصلاح ذات البين مع دول في التحالف الأطلنطي، والمعالجة من بعيد لقضايا الشرق الأوسط، خاصة عندما تحتدم المعارك بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وكما هي العادة، فإن مراحل الحكم تنبت كل مرحلة منها في رحم المرحلة السابقة، وولد بايدن الثاني بينما لم ينته بعد بايدن الأول، وجاء من إعلانه نية الانسحاب أولاً من أفغانستان، وثانياً من العراق، وثالثاً من كل شيء آخر حينما تحل اللحظة المناسبة. والحقيقة، أن الإعلان لم يكن مفهوماً؛ لأن الوجود الأميركي في الشرق الأوسط كان قد تقلص كثيراً بالفعل، ومع ذلك فإن الإعلان كان بمثابة الرسالة بالتخلي عن حلفاء كثر.
إلى هنا لم يكن هناك الكثير الذي يختلف عما بدأه ترمب، ولكن العقدة جاءت في تواضع النجاح الذي حققه بايدن في منع انتشار الفيروس والتعامل مع متغيراته الكثيرة ولم ينجح في تحقيق تحصين 70 في المائة من الشعب الأميركي باللقاحات المرعية. ولم يكن هناك بدّ من التهديد بفرضها؛ وهو ما أدى إلى أن بات الموضوع جزءاً من حملات انتخابية، ومعها عاد الحديث مرة أخرى عن التزوير والتلاعب في الانتخابات. بات ترمب يحرز تقدماً، ليس فقط داخل الحزب الجمهوري، وإنما داخل الساحة السياسية كلها. وأخيراً جاءت الكارثة الكبرى مع عملية الجلاء عن أفغانستان التي خرجت منها أميركا، وبايدن بالطبع، بسمعة سيئة بدأتها بالتخلي عن أصدقائها وحلفائها ومن عملوا معها، وانتهت بغضب فرنسي حاد من تآمر أميركا على فرنسا مع كل من بريطانيا وأستراليا عندما طعنت فرنسا في الظهر في صفقة الغواصات الأسترالية التي كانت تقليدية مع باريس، ثم صارت نووية مع واشنطن. انعكست استطلاعات الرأي العام وصارت شعبية بايدن متراجعة بشدة.
بايدن الثالث ربما بدأ العمل مع بداية شهر سبتمبر (أيلول) وفور تمام الخروج من أفغانستان، وأصبح عليه السعي نحو عودة الدولة الأميركية مرة أخرى إلى المسار الصحيح. وكانت هناك أكثر من فرصة سانحة، وهي أن الزمن له مُعامِله الخاص الذي تمسح فيه الأحداث الجديدة ما سبقها من أحداث، خاصة مع الدوران السريع للإعلام الإلكتروني. وفي هذا الزمن الجديد كانت تجري ذكريات مهمة لها علاقة بالنفسية الأميركية، مثل مرور عشرين عاماً على أحداث سبتمبر المريرة.
كما أن هناك أيضاً الخطاب التقليدي للرئيس الأميركي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومعها خطابات تجمعات دولية أخرى تجري بصورة يومية من خلال الفضاء الإلكتروني، وربما تطبيقات «زووم». الرئيس في مرحلته الثالثة بات ساعياً لاستعادة مكانته الأولى، ومن ثم فإن سياساته تعود مرة أخرى إلى «الجائحة» ووضعها في السياق الذي ينهيها محلياً أو يصل بها إلى مستوى «المعتاد» الجديد، ويأخذ بالتعاون الدولي فيها آفاقاً جديدة. ومع البلاء يستمر بايدن في السياسات العالمية الخاصة بالاحتباس الحراري التي تسببت في الكوارث الطبيعية لحرائق كاليفورنيا وأعاصير لويزيانا التي تبدو كلها ظواهر لخلل كوني أكبر يستدعي درجات أعلى من التعاون الدولي. مشكلة بايدن الثالث في ذلك، أن هذه المعضلات الخارجية لها جذور انقسامية داخلية مضافٌ إليها قضايا الإنفاق العام الذي قرر أن يكون 3.5 تريليون دولار، والدَّين العام الذي تراكم بدرجة مفزعة، وفوق ذلك كله قضايا حساسة تتعلق بالإجهاض والعنصرية. وفي الخارج، فإن هناك تناقضاً في استراتيجية بايدن الثالث لأنه يريد تعاوناً دولياً واسع النطاق، وفي الوقت نفسه فإنه يريد استبعاد الصين التي يريدها «العدو» الجديد الذي يحل محل الاتحاد السوفياتي والحرب ضد الإرهاب. كيف يمكن لتحالف دولي واسع النطاق أن ينجح بينما يتم استبعاد خُمس سكان العالم؟
هذا بالنسبة للقضايا الكلية والاستراتيجية العالمية، أما ما هو تكتيكي، مثل غضب فرنسا في قضية الغواصات النووية، فإنه سوف يستحق نوعاً من الترضية؛ فهي الدولة التي كانت حليفاً لأميركا في حرب الاستقلال، وما بعدها. والحفاظ على الرضا الإسرائيلي بينما يجري الدفع لمزيد من التطبيع العربي – الإسرائيلي سوف يكون له نتائج داخلية صعبة. الأرجح، أن بايدن الثالث سوف يحتاج إلى الاستعانة بأكثر من صديق!
نقلا عن الشرق الأوسط