وافق البرلمان التركي، في 30 نوفمبر الفائت، على مذكرة مقدمة من الرئيس رجب طيب أردوغان لتمديد مهمة الجيش في الأراضي الليبية لـ 24 شهراً إضافية، على أن تنتهي في يناير 2026. وقد أثار توقيت القرار تساؤلات عدة، حيث يأتي في ظل محاولات تركيا تعزيز نفوذها في ليبيا من خلال دعم حكومة الوحدة الوطنية المقالة برئاسة عبد الحميد الدبيبة. وألمحت بعض التقديرات إلى وجود تخوفات متزايدة لدى أنقرة من هيمنة قائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر ومجلس النواب في طبرق على مفاصل المشهد الليبي خلال المرحلة المقبلة، في ظل الحديث عن خارطة طريق جديدة مرتقبة، والتي يمكن أن تعيد تأطير المشهد السياسي والأمني في البلاد لغير صالح حلفاء تركيا المحليين.
من ناحية أخرى، يأتي القرار التركي في ظل قلق أنقرة من استمرار الانقسامات بين الفاعلين المحليين على الساحة الليبية بشأن تسوية المسائل الخلافية العالقة، بالإضافة إلى حالة الانسداد السياسي، خاصة في ظل مؤشرات على فشل مبادرة المبعوث الأممي عبد الله باتيلي المتعلقة بإجراء الانتخابات، فضلاً عن تصاعد حدة الأزمات في منطقة غرب أفريقيا، والتي شهدت خلال الأشهر الأخيرة تراجعاً سياسياً لافتاً لفرنسا، على نحو قد يمثل، في رؤية اتجاهات مختلفة، فرصة لتركيا لتعزيز حضورها على حساب منافسيها الغربيين في أفريقيا.
مصالح متشابكة
ثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء قرار البرلمان التركي بتمديد حضور الجيش التركي عامين إضافيين في ليبيا، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- ترسيخ الدور في الملف الليبي: يأتي قرار التمديد للقوات التركية في ليبيا في إطار مساعي أنقرة لترسيخ دورها في الملف الليبي، وهو ما يتزامن مع التحركات التركية المكثفة خلال الفترة الأخيرة للانفتاح على شرق ليبيا، بالإضافة إلى دعم التعاون مع حكومة الوحدة الوطنية المقالة من البرلمان برئاسة عبد الحميد الدبيبة الذي زار أنقرة في 20 أكتوبر الماضي. وتدرك تركيا أن استمرار قواتها العسكرية على الأراضي الليبية ساهم في تعزيز نفوذها في الداخل الليبي، وأدى من جانب آخر إلى تحييد خطط قوى شرق ليبيا لإنهاء الحضور التركي.
2- دعم سلطة حكومة الوحدة الوطنية: تشير العديد من التقديرات إلى أن تمديد بقاء الجيش التركي في ليبيا يعكس رسائل ضمنية من قبل تركيا مفادها استمرار اعترافها بشرعية حكومة الدبيبة، وتمسكها باستمراريتها في المشهد حتى إجراء الانتخابات، أو على الأقل في المدى المنظور، وذلك رداً على دعوة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، في 15 أكتوبر الماضي، لتشكيل حكومة جديدة في البلاد، خلفاً لحكومة الوحدة.
ولم تكن دعوة صالح هي الأولى من نوعها، إذ سبقتها في مايو 2023 دعوات أطلقها سياسيون وزعماء قبائل في المنطقة الغربية لتشكيل حكومة موحدة تتولى مهمة الإشراف على الانتخابات الرئاسية والنيابية المُنتظرة، وذلك على إثر إقالة حكومة فتحي باشاغا. وهنا، يمكن فهم قلق أنقرة التي تعتبر أن حكومة الدبيبة في هذا التوقيت تمثل طرفاً لا يمكن، في رؤيتها، استبداله بالنظر إلى سيولة الحالة الليبية.
3- استثمار الأوضاع في غرب أفريقيا: يأتي التمديد للقوات العسكرية التركية على الساحة الليبية لعامين إضافيين، في سياق تعويل أنقرة على توظيف قدراتها العسكرية الموجودة في ليبيا، والاستفادة منها في تأمين تحركاتها الراهنة لتعزيز حضورها في منطقة الساحل والصحراء الأفريقية، بعد تراجع النفوذ الفرنسي بفعل الانقلابات العسكرية الأخيرة التي شهدتها منطقة غرب أفريقيا.
وفي رؤية أنقرة، فإن وجودها العسكري في ليبيا يمكن أن يشكل رافعة أساسية في تمتين علاقاتها مع الحكومات الأفريقية الجديدة التي باتت أقرب للقوى الإقليمية والدولية المنافسة للدول الغربية، وهو ما بدا جلياً في اتجاه مالي والنيجر والجابون وغينيا ودول أخرى نحو تطوير العلاقات مع روسيا وتركيا وإيران على حساب تهميش العلاقات مع بعض القوى الغربية، وخاصة فرنسا.
4- مواصلة تنفيذ مشروعات الطاقة: تمتلك أنقرة مصالح اقتصادية واسعة في ليبيا، خاصة فيما يتعلق بصفقات النفط والغاز، بالإضافة إلى مشاريع التنقيب التي تقوم بها الشركات التركية قبالة السواحل الليبية في ظل الاتفاقيات الموقعة للتنقيب عن الطاقة. وكانت حكومتا طرابلس وأنقرة قد وقّعتا، في 3 أكتوبر 2022، اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية. لذا تستهدف أنقرة من وراء ترسيخ حضورها العسكري في المشهد الليبي خلال المرحلة المقبلة، تأمين مشاريع الطاقة المشتركة، والحيلولة دون تعطيل التعاون النفطي مع ليبيا.
5- موازنة تحركات المنافسين الدوليين: ارتبط قرار تمديد عناصر الجيش التركي في ليبيا بتصاعد القلق التركي من تحركات بعض المنافسين على الساحة الليبية، بعدما شهدت الأيام الأخيرة زيارة المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي بول سولير، في 29 أكتوبر الماضي، شرق وغرب ليبيا، ولقاءه مختلف الأطراف السياسية والعسكرية الفاعلة في البلاد، بالإضافة إلى استمرار التحركات الروسية على الساحة الليبية، وهو ما أثار قلق أنقرة بشأن احتمالات التأثير على نفوذها العسكري في غرب ليبيا.
وتخشى أنقرة أن يهدد هذا التطور مصالحها هناك، خاصة في ظل سعي الفاعلين المحليين في الداخل الليبي، مع تعثر التوافق على إجراء العملية الانتخابية، إلى توسيع نطاق خياراتهم الإقليمية والدولية، لتأمين مصالحهم خلال المرحلة المقبلة، وضمان بقائهم في صدارة المشهد الليبي، أو على الأقل ضمن مكوناته الرئيسية.
تداعيات مختلفة
يمكن القول إن هناك جملة من الانعكاسات المحتملة التي ربما تتمخض عن قرار البرلمان التركي بالموافقة على المذكرة الخاصة بتمديد تواجد القوات العسكرية في ليبيا لمدة عامين إضافيين: أولها، تعزيز الانخراط التركي في المشهد الليبي، إذ تستهدف أنقرة من وراء الحفاظ على وجودها العسكري ترسيخ حضورها في الملف الليبي، والتعاون مع الشركاء المحليين الموالين لها، لا سيما وأن ثمة محاولات لإجراء الانتخابات خلال الفترة المقبلة.
وثانيها، تعزيز الانقسامات في الداخل الليبي في ظل رفض مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح الاعتراف بالمذكرة التركية، والتواجد التركي في البلاد، بينما تدعم حكومة الدبيبة بقاء القوات التركية، بل وتمنحها امتيازات استراتيجية كبيرة.
وثالثها، تصاعد التنافس التركي مع عدد من القوى الإقليمية والدولية التي تعارض الوجود العسكري في ليبيا، بالتوازي مع تزايد صعوبة إقناع روسيا أو أي من القوى التي تملك تواجداً عسكرياً على الأرض بسحب قواتها العسكرية من ليبيا من طرف واحد، فدائماً ما تتذرع موسكو بضرورة مغادرة جميع القوات الأخرى قبل أن تتبنى الخطوة نفسها.
ختاماً، يمكن القول إن التمديد للقوات التركية في ليبيا يكشف عن مساعي أنقرة لترسيخ نفوذها في الداخل الليبي، من خلال توسيع نطاق تحركاتها وحضورها العسكري ميدانياً، انتظاراً للمسارات المحتملة التي قد يتجه إليها المشهد السياسي الليبي خلال المرحلة القادمة.