ينتج عن تعثر تطبيق اتفاق السلام والمصالحة بمالي تأثيرات جيوسياسية على الجزائر التي سعت إلى إنفاذه بين الأطراف المتحاربة، ومنها تأزم العلاقات الثنائية الجزائرية المالية، وتضاؤل الثقل الإقليمي للجزائر في الساحل الأفريقي، وتنشيط البؤر الإرهابية في المناطق الحدودية الملتهبة، واستشراء مجالات مختلفة للجريمة المنظمة، وتمدد الطموحات الانفصالية داخل بعض دول الجوار، وتدفقات متزايدة من اللاجئين إلى النطاقات الشمالية المتاخمة للجزائر، وزيادة التكاليف الاقتصادية على الداخل الجزائري.
إذ تصور تجليات الشمال المالي وتكشف متغيراته عن تأزمٍ متنامٍ وصراعٍ حاضرٍ منذ ستينيات القرن الـ20 مدفوعاً بطموحات انفصالية عن دولته الأم (مالي)، ترجمها بأربعة مساعٍ انفصالية، وتخللتها وساطات جزائرية لاتفاقات السلام الثلاثة خلال 1992 و2006 و2015. وفي الأخير، سعت الوساطة الجزائرية لجمع طرفي الصراع الماليين (الحكومة المالية، وتنسيقية “حركات الأزواد”) على أمل التسوية السلمية والمصالحة الوطنية، ليلتقيا معاً وينتهيا بغير تراضٍ وبضغط دولي إلى التوقيع في يونيو 2015 على ما عرف إعلامياً بـ”اتفاق السلام والمصالحة” الذي رمت بنوده إلى استعادة السلام عبر اللا مركزية، وإعادة الهيكلة الإقليمية، وإعادة الدمج لمسلحي الحركات الموقعة داخل الجيش وقوات الأمن والمناصب المدنية، وتكفل الدولة الوطنية بجهود إنمائية وتنموية للإقليم الشمال، وتوسيع آفاق الحوار والمصالحة الوطنية.
سلام هش
ومن أول وهلة، لم ينلْ الاتفاق رضى قادة الجيش ولم يُلَبِّ طموحات الانفصاليين “الطوارق” في الاستقلال والانفصال؛ فسرعان ما كشفت وقائع الاتفاق وتفسيرات بنوده الخمسة عن تعثر تنفيذه فعلياً؛ إذ لم يسفر عن أية جهود إصلاحية للبنى السياسية والمؤسساتية داخل الإقليم، بل استغرق تعيين السلطات المؤقتة في المناطق الشمالية عدة أشهر من المفاوضات، ولم تنلْ أي موارد مالية وبشرية وتقنية كافية. ولم يُلاحظ تنفيذ عملي وواسع لبند نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج بفعل الخلاف حول الرتب العسكرية والتفسيرات المتباينة ما بين الدمج والتسريح. وعلاوةً على ذلك، حالت هشاشة الاتفاق دون إرساء أُسسٍ وجهودٍ إنمائية للإقليم، وقلصت قدرته بعيداً عن تحقيق أي نجاحات بشأن العدالة والمصالحة الحقيقية.
تراجع محتوم
حتّم غياب الإرادة الفعلية لدى الأطراف المتصارعة والجهات الوسيطة اعتراء الاتفاق المزيد من الصعوبات حد خروجه عن مساره المأمول للمضيّ خلفاً. فلعل المدقق لسياقات الاتفاق وظروف صياغته وقبوله، يلمس حماسة طفيفة من قبل طرفي الصراع باعتباره اتفاقاً مفروضاً بضغط من قبل رعاياه، ولا سيما الجزائر وفرنسا والولايات المتحدة، وعدم مراعاة الاتفاق أي تمثيلات للسكان المحليين ومنظمات المجتمع المدني وقت التوقيع، ويرصد أيضاً دوراً ضئيلاً لرعاة الوساطة كضامين لتنفيذ الاتفاق، ولا سيما فيما يتعلق بأحكامه السياسية والأمنية، مع تركيز أنظارهم ناحية تصاعد التهديدات الجهادية والإرهابية في أوساط مالي وبوركينافاسو والنيجر.
فقد قادت تحولات موازين القوى عقب انقلابات العسكريين الماليين في عامي 2020 و2021، وتغير خارطة الجهات الفاعلة عقب انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية والأممية لصالح الجيش المالي وتعاونه مع قوات فاغنر الروسية ونيله دعماً روسيا واستزادته بطائراته الحربية ومروحياته القتالية؛ إلى إخراج اتفاق السلام الهش عن مساره المأمول وتفريغ مضمونه ودخوله نفقاً مظلماً منذ أغسطس 2023؛ حيث اقتنع المجلس العسكري المالي بقدرته على التحرك شمالاً لإثبات سيادته الكاملة، والتصدي لتواطؤ حركات أزواد مع الجماعات الإرهابية، الأمر الذي قوبل بتشكك الطرف الآخر من نية المجلس العسكري واتهامه بالتخلي عن الاتفاق، بل إعلانه الاستقلال والانفصال والتعبئة لمقاتليه، لتتجدد المعارك والاشتباكات، وتتآكل المساعي الدبلوماسية حد إنهائها من قبل المجلس العسكري في 25 يناير 2024 بذريعة تغير مواقف بعض المجموعات الموقّعة، والتصرفات العدائية من قبل الوسيط الجزائري، وتوظيف الاتفاق للتدخل في الشؤون الداخلية المالية والمساس بسيادتها الوطنية.
مآلات جيوسياسية
ورغم التوقع المؤكد وغير المباغت من قبل تنسيقية حركات “الأزواد”، تأسف الوسيط الجزائري وأعرب عن قلقه بشأن مآلات الإنهاء الفوري للاتفاق المنبثق عن مساراته الدبلوماسية منذ 2015 بشكل ينهي كافة المساعي الدبلوماسية الجزائرية وينذرها بتداعيات خطرة، أمنياً واقتصادياً وسياسياً، والتي يمكن استعراضها على النحو التالي:
1- تأزم العلاقات الثنائية الجزائرية المالية، فمن شأن إنهاء الاتفاق توسيع حدة تأزم العلاقات بين الجزائر ومالي، ولا سيما في ظل اعتباره انتقاماً للتصرفات الجزائرية وتدخلاتها في الشأن المالي عبر وساطتها لاتفاق السلام وعقب استضافاتها مكاتب لممثلين عن مجموعات معينة وقعت على اتفاق السلام والمصالحة (إرهابيون من وجهة النظر المالية)، واتهامها برعاية الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، بل ومحاولات مالي التقارب مع المغرب نكاية في الجزائر عبر ترحيبها بمبادرة المغرب المعنية بتحسين وصول دول الساحل للمحيط الأطلسي وتعيين سفير جديد لدى المغرب منذ 22 يناير 2024.
تضاؤل الثقل الإقليمي للجزائر في الساحل الأفريقي، يرصد إنهاء الاتفاق وغيره من تطورات منطقة الساحل الأفريقي تجاه الوساطة الجزائرية وخاصة بعد رفضها من النيجر، تضاؤلاً ملحوظاً بشأن الوزن والثقل السياسي للجزائر في محيطها الإقليمي، وقد يمثل إنهاء الاتفاق بدوره تحجيماً إضافياً لدورها الإقليمي وتحركاتها داخل منطقة الساحل لصالح منافسها التقليدي المتمثل في دولة “المغرب”، ويبرهن على ذلك تمكن المغرب نسبياً من تحقيق تقدمات للتسوية أثناء رعاية مباحثات الليبيين في إطار لجنة 6+6، واتفاق وزراء خارجية كل من مالي والنيجر وتشاد وبوركينافاسو على إنشاء فريق عمل وطني في كل دولة لإعداد واقتراح سبل تفعيل مبادرة العاهل المغربي.
2- تنشيط البؤر الإرهابية في المناطق الحدودية الملتهبة، دوماً ما تُفضي متغيرات شمال مالي وتطوراته الأمنية والعسكرية إلى تنشيط للعمليات الإرهابية. وتُنذر القراءة الأمنية التشاؤمية لما بعد إنهاء اتفاق السلام بتنشيط البؤر الإرهابية وتسارع عملياتها ولا سيما داخل الجنوب الجزائري، باعتبارها منطقة مجاورة للمثلث الحدودي الملتهب بين النيجر وبوركينافاسو ومالي. فقد يمثل الجنوب الجزائري بؤرة وثكنة جديدة ساخنة للتنظيمات الإرهابية المسلحة والمتنافسة، ولا سيما تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، وجماعة نصرة الإسلام وتنظيم الدولة الإسلامية في ولاية الساحل.
3- استشراء مجالات مختلفة للجريمة المنظمة، قد تؤدي التوترات والاشتباكات الأمنية في الشمال المالي إلى توسيع نطاق الجرائم المنظمة إلى الجنوب الجزائري حد جعله مسرحاً محتدماً ومجالاَ نشطاً لاستشراء تجارة الأسلحة والمخدرات والهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر.
، قد تمتد التأثيرات الناجمة عن إنهاء الاتفاق وما يصاحبها من اشتباكات واقتتال مسلح إلى تمدد ساحة القتال والاشتباك ليشمل أطرافاً إقليمية أخرى؛ حيث تنتشر جماعات الطوارق في غرب وشمال أفريقيا، وقد يصحب ذلك تنامي المطالب الانفصالية داخل ليبيا والنيجر، الأمر الذي ينعكس سلباً على الجزائر.
4- إلى النطاقات الشمالية المتاخمة للجزائر، تنوه السياقات الأمنية، ولا سيما عقب إنهاء الاتفاق واستشراء البؤر الساخنة والمحمومة للقتال والعمليات الإرهابية، إلى تزايد تدفقات اللاجئين إلى النطاقات الشمالية المتاخمة للجزائر والتي قد تمثل بدورها مدخلاً لتسلل الكثير من الإرهابيين ضمن تدفقات اللاجئين إلى الجنوب الجزائري، لتنشط بدورها داخل بؤر وثكنات جديدة من شأنها المساس بالأمن القومي الجزائري.
5- زيادة التكاليف الاقتصادية على الداخل الجزائري، قد تمثل أعباء اللاجئين إلى جانب التأثيرات السلبية المصاحبة للعمليات الإرهابية، ولا سيما تدمير البنى التحتية وتعطيل التنمية وزيادة النفقات العسكرية وخفض معدلات الاستثمار والسياحة، تحديات وضغوطاً اقتصادية على الجزائر.
تداعيات خطرة
وختاماً، عكس اتفاق “السلام والمصالحة” منذ بدايات بلورته كغيره من اتفاقات السلام عام 2015 هشاشة متزايدة نتيجة غياب الإرادة السياسية لأطرافه والضمانة الحقيقية لرعاياه الدوليين والإقليميين وتأييده من قبل الماليين شعبياً ورسمياً، ويحمل كغيره من تطورات منطقة الساحل الأفريقي تداعيات خطرة على كافة الأصعدة، الدولية والإقليمية والوطنية، ويلقي بتأثيرات جيوسياسية سياسية وأمنية واقتصادية على الجزائر.