أزمات ممتدة:
انعكاسات الحرب الأوكرانية على الأوضاع الإنسانية في دول الصراعات

أزمات ممتدة:

انعكاسات الحرب الأوكرانية على الأوضاع الإنسانية في دول الصراعات



استهل الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيريش مداخلته الخميس (19 مايو 2022) في جلسة لمجلس الأمن حول الصراعات والأمن الغذائي، بمقولة: “حينما تندلع الحروب يكثر الجياع في العالم”، لافتاً بذلك إلى انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا على الأمن الغذائي العالمي، مع الوضع في الاعتبار أن خريطة الأزمات الإنسانية في منطقة الشرق الأوسط قد تتجاوز خريطة الصراعات، وربما انخفضت حدة هذه الصراعات أو توقفت في بعض الدول مثل سوريا وليبيا والعراق، لكن الأزمات الإنسانية فيها لا تزال متفجرة، وهو ما تعكسه مخيمات النزوح في تلك الدول، بالإضافة إلى بعض مخيمات اللاجئين من الخارج.

كما أثقلت تلك الأزمات كاهل المانحين الدوليين مع اندلاع متزامن للصراعات المسلحة والأزمات في العديد من دول المنطقة بعد أحداث عام 2011. وعلى سبيل المثال، خلّف الصراع في اليمن أسوأ كارثة إنسانية في العالم خلال الأعوام الأخيرة وفقاً للتقديرات الدولية. ورغم تدفق المعونات لمعالجة الأزمة، إلا أن تقارير الأمم المتحدة غالباً ما تشير إلى أن ما يتم توفيره من منح ومساعدات دولية يكاد يوفر الحد الأدنى، وفي بعض المواقع كان هناك عجز هائل عن الوفاء بمتطلبات أعمال الإغاثة الإنسانية. وجاءت الحرب الروسية في أوكرانيا لتفاقم من تلك الأزمة، مع توجه المانحين الدوليين إلى توفير دعم إنساني عاجل إلى أوكرانيا، بالإضافة إلى التأثيرات العامة التي انعكست على كافة دول العالم وأبرزها أزمة الأمن الغذائي.

نماذج كاشفة

يمكن تناول أبرز تأثيرات الحرب الروسية في أوكرانيا على الأزمات الإنسانية في المنطقة فيما يلي:

1- تراجع الدعم الإنساني الدولي: تتصدر الأزمة اليمنية قائمة الأزمات الإنسانية، حيث تظل الأكثر عرضة لتأثيرات الحرب الروسية في أوكرانيا من زاوية الدعم الإنساني. ففي الشهر الأول للحرب، فشلت الأمم المتحدة في توفير 4.3 مليارات دولار لتغطية احتياجات عاجلة وضرورية لأكثر من 17 مليون يمني، حيث تم الإعلان عن توفير ما يقرب من ثلث هذه القيمة بحدود 1.3 مليار دولار فقط. وبالنظر إلى خريطة المانحين، يتضح أنها هى الدول الرئيسية التي تقدم مساعدات مالية وعسكرية عاجلة إلى أوكرانيا حالياً كأولوية تجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية فيها 10 مليارات دولار وحدها، فيما جمعت الأمم المتحدة لمساعدة أوكرانيا ما يقارب ما جمعته لليمن أي 1.3 مليار دولار.

2- تزايد تداعيات استمرار التسييس: يعاني أكثر من 13 مليون سوري من نقص الاحتياجات الإنسانية بسبب الصراع العسكري. وبعد نحو أسبوعين من اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، كشف مكتب الأمم المتحدة للشئون الإنسانية “أوتشا” أنه بعد 11 عاماً من الحرب في سوريا، أصبحت الأزمة الإنسانية أكثر سوءاً، فالمحصلة التقديرية لكلفة الصراع منذ اندلاعه تجاوزت 1.2 تريليون دولار، فضلاً عن وجود نحو 6.2 ملايين نسمة، من بينهم 2.5 مليون طفل، نازحون داخلياً في البلاد، أى نصف أعداد المتضررين من الحرب الداخلية.

وفي 8 مايو الجاري، انعقد في بروكسل مؤتمر للمانحين لتغطية احتياجات اللاجئين السوريين، حيث تم استبعاد روسيا من المؤتمر، بينما شاركت 55 دولة و22 منظمة دولية. وعلى الرغم من أن المؤتمر انتهى بالتعهد بجمع نحو 6,7 مليارات دولار لسوريا والدول المجاورة المستضيفة للاجئين السوريين، أى بهامش زيادة إذا ما قورن بالمبلغ السابق بحوالي 6,4 مليارات دولار العام الماضي، إلا أن النظر إلى الأمر من وجهة ثانية وهى أن روسيا طرف رئيسي في عملية دعم إيصال المساعدات، لا سيما مناطق شمال غرب سوريا، يكشف أن ذلك يعني أن غيابها لا يشكل أزمة في الدعم بقدر ما يمثل أهمية لوجستية، فالمنظمات المشاركة في المؤتمر أعلنت عن خشيتها من قيام روسيا بإغلاق معبر “باب الهوى” كرد فعل على استبعادها، وهو المعبر الرئيسي لإدخال تلك المساعدات إلى سوريا، خاصة وأن المعابر الأخرى ليست آمنة.

3- الخلل في تقديم المساعدات الإنسانية: ما زال هناك خلل في عملية تقديم المساعدات الإنسانية في اليمن، وهو ما أشارت إليه السلطات اليمنية مؤخراً، مع لفت الانتباه إلى أن هناك 60% من النازحين في مناطق مأرب، بينما تتجه المساعدات إلى مناطق حوثية، وهى لفتة تهدف منها إلى الإشارة لحجم الصعوبات وربما التسييس في بعض الأحيان، بسبب ضغوط المليشيا الحوثية والعراقيل التي تفرضها على عمل المنظمات الإغاثية. كما أشارت البعثة الأممية إلى تحسن وضع العمليات الإنسانية في ظل الهدنة القائمة في اليمن، وهو ما يتعارض مع ما تشير إليه الحكومة اليمنية، على اعتبار أن الهدنة لم تشكل اختراقاً حقيقياً في مسألة تراجع حدة الصراع على الساحة الداخلية في اليمن، وبالتالي يمكن القول إن الحالة اليمنية ستعاني من تراجع التمويل بشكل تدريجي مع غياب أفق لوقف الحرب في أوكرانيا، وهو ما يفرض وقفاً فعلياً للحرب وإبرام هدنة حقيقية لتفادي كارثة إنسانية في البلاد.

4- تفاقم تأثير نقص واردات الغذاء: على الرغم من أن ليبيا دولة غنية بالنفط، لكن انعكاسات الأزمة الأوكرانية فيما يتعلق بالأمن الغذائي طالتها بطبيعة الحال بالنظر إلى الاعتماد على وارداتها من روسيا وأوكرانيا كأغلب دول الشرق الأوسط. لكن بالعودة إلى فترة الصراع المسلح خلال حرب طرابلس، فقد عانت مناطق بأكملها من أزمات إنسانية، لا سيما في الجنوب، ولم تتمكن منظمات الإغاثة الإنسانية من القيام بدورها في العمل بتلك المناطق قبيل الوصول إلى قرار وقف إطلاق النار. وفي ظل هشاشة الوضع السياسي وتنامي التوترات الأمنية، فقد باتت ليبيا على أعتاب مخاطر جديدة لتكرار هذا النموذج، يضاف إلى ذلك، بطبيعة الحال، تأثر اللاجئين من خارج ليبيا الذين أقيمت لهم مخيمات في العديد من المناطق بشكل مباشر بالتطورات الراهنة في البلاد.

فضلاً عن ذلك،هناك اتجاهٌ لتجميد عوائد النفط الليبية، كورقة ضغط على القوى المتصارعة على السلطة في ليبيا، مما قد يلقي بآثاره الجانبية على المستوى الإنساني، وبالتالي تبقى الحالة الليبية مرشحة للعودة مرة أخرى إلى مربع الأزمة ذاتها، خاصة مع الوضع في الاعتبار انعكاسات الموقف الدولي تجاه الدور الروسي من الأزمة الليبية، فمن المتوقع في المستقبل القريب في ظل التفاعلات الشاملة أن تواجه ليبيا أزمة إنسانية قد تكون أكبر مما كانت عليه في السابق.

تحرك استباقي

إجمالاً، يمكن القول إن هناك دولاً في المنطقة دفعت كلفة إنسانية للحرب الروسية في أوكرانيا كجزء من قائمة التكاليف الأخرى، كالوضع في اليمن، وأخرى ستسدد هذه الكلفة في صورة سياسية كما هو الوضع في سوريا، بينما تبقى دول مرشحة لزيادة الكلفة جراء هشاشة أوضاعها الداخلية كما في حالة ليبيا، التي لن يكون في صالحها العودة إلى مربع الصراع في ظل وجود حرب في منطقة أخرى من العالم تتأثر بها في جوانب أخرى. ولذا فالمقترح الاستباقي الذي أكد عليه جوتيريش في مجلس الأمن، وهو منع الانزلاق إلى الصراعات مجدداً، بالإضافة إلى الاستثمار في تسوية ما قائم منها؛ قد يمثل مخرجاً من المأزق القائم في بعض الحالات، أو المحتمل في حالات أخرى.