صدمات متواترة:
انعكاسات التصعيد في البحر الأحمر على الاقتصاد العالمي

صدمات متواترة:

انعكاسات التصعيد في البحر الأحمر على الاقتصاد العالمي



شهدت الفترة الأخيرة تصعيداً عسكرياً في البحر الأحمر، حيث استهدفت جماعة الحوثي السفن المارة قبالة السواحل اليمنية، مهددةً بذلك الملاحة البحرية. وبالرغم من تأكيد الجماعة أنها تستهدف السفن المرتبطة بإسرائيل، وأنها لا تستهدف الملاحة الدولية؛ إلا أن ذلك ترك تأثيراً واضحاً على حركة السفن في المنطقة، ولا سيما مع تنوع السفن التي تم استهدافها، ما بين سفن ناقلة للسلع وتلك الناقلة للنفط. ففي شهر واحد (خلال الفترة من 19 نوفمبر إلى 18 ديسمبر)، تم استهداف 10 سفن تجارية وناقلات نفط بصواريخ وطائرات مسيرة.

دفع ما سبق إلى تمركز العديد من السفن الحربية والمدمرات البحرية بالمنطقة لعدة دول (تحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) لمواجهة ذلك الاستهداف. ومع ارتفاع التصعيد أطلقت الولايات المتحدة، في 19 ديسمبر، عملية “حارس الازدهار” التي تضم 9 دول بخلافها، بهدف استحداث ممر آمن للتجارة العالمية في البحر الأحمر، وذلك بعدما غير ما لا يقل عن 10 شركات للنقل البحري من مسار رحلات سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح بدلاً من طريق البحر الأحمر/ قناة السويس/ البحر الأبيض المتوسط.

قنوات التأثير

إنّ حالة التصعيد العسكري الحالية في البحر الأحمر، والضبابية من مآلات هذا التصعيد، ستكون لها ارتدادات على الاقتصاد العالمي، الذي لا يزال يعاني من صدمتي جائحة (كوفيد-19) والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتهما. هذا وقد تتركز أهم قنوات التأثير التي ستنتقل من خلالها تداعيات التصعيد في البحر الأحمر للاقتصاد العالمي، في التالي:

1- موجة جديدة من ارتفاع الأسعار في الاقتصادات العالمية: إن اضطرابات قطاع النقل البحري الذي ينقل ما يتراوح بين 80% و90% من التجارة العالمية (وفق تقديرات منظمة الأونكتاد ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)، قد تؤدي إلى ارتفاع السلع المنقولة بحراً. ويُشار في هذا الصدد إلى أن التأثير المباشر الرئيسي لارتفاع تكلفة النقل البحري يتمثل في رفع معدلات التضخم، وذلك على مستوى الرقم القياسي لأسعار المستهلكين الأساسي وتضخم أسعار المنتجين، وهو ما دلل عليه ارتفاعهما على المستوى العالمي (وفق دراسة لعينة من 46 دولة) عقب جائحة (كوفيد-19) عندما تضرر وقتها قطاع النقل البحري برمته، وهو ما يوضحه الشكل التالي:

شكل رقم (1): تطور الرقم القياسي لأسعار المستهلكين الأساسي وتضخم أسعار المنتجين عقب تفشي جائحة (كوفيد-19) (التطور شهرياً بعد الجائحة)

(Source: Yan Carrière-Swallow and others, Shipping costs anI inflation, Journal of International Money and Finance, November 17, 2022)

يؤخذ في الاعتبار التفاوت في ارتفاع معدلات التضخم وفق كل منطقة بناءً على تكلفة النقل البحري منها وإليها، فبالنسبة للموقف الراهن في البحر الأحمر، فقد تسفر الاضطرابات الحالية عن رفع تكلفة النقل البحري عبر التالي:

أ- ارتفاع أسعار النفط العالمية، وبما يعني ارتفاع سعر الوقود، حيث ارتفع سعر خام نفط برنت في السوق الفورية بين يومي 7 و18 ديسمبر 2023 بنحو 6.3%، وذلك من 74.21 دولاراً/ برميل إلى 78.89 دولاراً/ برميل (وفق إدارة معلومات الطاقة الأمريكية)، مع احتمالات ارتفاع سعره بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة مع تزايد التصعيد.

ب- ارتفاع أسعار التأمين للسفن المارة في البحر الأحمر، والتي ارتفعت وفق بعض التقديرات من 0.2% من قيمة السفينة إلى 0.5%، أي إن السفينة التي تبلغ قيمتها 100 مليون دولار، ارتفعت قيمة تأمينها من 200 ألف دولار إلى 500 ألف دولار في الرحلة الواحدة.

ج- ارتفاع أسعار الحراسة على السفن، حيث تقوم بعض السفن بالتعاقد مع أفراد مسلحين لحراسة السفن من الهجوم عليها، وهو توجه تنامى الاعتماد عليه في مواجهة عمليات القرصنة التي تزايدت قبالة سواحل العديد من الدول الأفريقية. فوفق بعض التقديرات فإن 35% من السفن باتت تتعاقد مع هؤلاء المسلحين، وبالتالي من المتوقّع أن ترتفع قيمة العقود مع تلك الشركات بما يرفع من تكلفة الشحن البحري.

على الرّغم من أن طريق البحر الأحمر/ قناة السويس/ البحر المتوسط مسؤول عن عبور نحو 12% من التجارة العالمية، و30% من إجمالي عدد الحاويات عالمياً؛ إلا أنّ التأثير الأكبر يتركّز في كونه مسؤولاً عن مرور نحو 12% من إمدادات النفط العالمية، و8% من الغاز الطبيعي المسال في النصف الأول من 2023 (وفق إدارة معلومات الطاقة الأمريكية)، وهو ما يعني التأثير على أسعار الطاقة عالمياً، وسيكون لذلك انعكاس على التضخم في الدول المستوردة للطاقة، التي ستنقل أثر التضخم إلى الدول التي تقوم بالتصدير لها.

2- التأثير على سلاسل الإمداد العالمية والنمو الاقتصادي: إنّ تضرر النقل عبر البحر الأحمر يؤثر بشكل سلبي على سلاسل الإمداد العالمية، لا سيما وأن طريق البحر الأحمر/ قناة السويس/ البحر الأبيض المتوسط تمر منه عدة خطوط ملاحية تربط الدول الآسيوية بالأوروبية والشرق أوسطية، وكذا ربط الدول المطلة على الخليج العربي بدول أفريقيا والمطلة على البحر الأبيض المتوسط، كما أنه يربط دول الشرق الأوسط وآسيا بالولايات المتحدة الأمريكية (انظر شكل رقم 2)، وبالتالي فإن توقف الاعتماد على ذلك الطريق الرئيسي، حتى لو جزئياً، سيترك تأثيرات ملموسة على حركة التجارة العالمية بين المناطق المختلفة، ولا سيما مع الجفاف الجزئي الذي تعاني منه قناة بنما، وصعوبة الاعتماد على ممر القطب الشمالي في فصل الشتاء.

شكل رقم (2): طرق التجارة البحرية العالمية الرئيسية والفرعية

(Source: www.porteconomicsmanagement.org)

فقد ارتبط تطور التجارة العالمية بتطور وتكثيف دور النقل البحري في الربط بين المناطق المختلفة، لا سيّما وأنّ تكلفة النقل البحري هي الأقل مقارنةً بنظيريه الجوي والبري، كما أن اقتصاديات الحجم الكبير الذي توفره سفن ناقلات الحاويات تلعب دوراً كبيراً في خفض تكلفة النقل، وبالتالي فإن تضرر أي من الشرايين الرئيسية لنقل التجارة البحرية العالمية سيكون له تأثير سلبي على حجم التجارة المنقولة، والتي تتضمن سلعاً وسيطة ومواد خاماً، وبالتالي ستتضرر عمليات الإنتاج في العديد من الدول، مما يشير إلى أن الروابط الأمامية والخلفية لقطاع النقل البحري ستتأثر، حيث تعتمد العديد من القطاعات والأنشطة الاقتصادية على ذلك القطاع الحيوي.

يُشار إلى أن الصدمات العالمية التي حدثت خلال السنوات الماضية، أبرزها الأزمة المالية العالمية في 2008، وجائحة (كوفيد-19)، أدت إلى عكس المسار التصاعدي لحركة التجارة العالمية، خاصة تلك المنقولة بحراً (انظر شكل رقم 3)، وهو ما يعني بالضرورة تضرر سلاسل الإمداد، لذا فإن التصعيد العسكري في البحر الأحمر، والذي يرتبط بصراع أكبر محتمل أن يندلع بسبب استمرار التصعيد الإسرائيلي على سكان قطاع غزة، قد تكون له ارتدادات مماثلة للصدمات المشار إليها إذا لم يتم احتواء الصراع الرئيسي، أي وقف الحرب التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين.

شكل رقم (3): تطور حجم التجارة البحرية وقيمة الصادرات السلعية المنقولة بحراً

(Source: www.transportgeography.org)

إن تراجع التجارة سيُسهم في خفض معدلات النمو في العديد من الدول، ليمتد ذلك بدوره إلى معدل نمو الاقتصاد العالمي، ارتباطاً بأن التجارة السلعية العالمية شكلت نحو 50.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2022 (وفق تقديرات البنك الدولي)، الأمر الذي يفسر التحرك السريع لعديد من الدول للمشاركة في تحالف “حارس الازدهار” لحماية مصالحها التجارية في البحر الأحمر. وقد تشارك دول أخرى في التحالف عبر المشاركة بعدة صور، لا تتطلب بالضرورة التواجد المادي عند مضيق باب المندب، فقد يشارك البعض بتوفير المعلومات الاستخباراتية، أو على أقل تقدير تأييد ذلك التحالف لتوفير الشرعية اللازمة لتواجده، ولا سيما مع احتمالية بقائه للحفاظ على أمن الملاحة البحرية في المنطقة بشكل دائم.

3- انتقال الأزمات الإقليمية للاقتصاد العالمي: من المرجّح أن تشهد بعض اقتصادات المنطقة تراجعاً بسبب الأحداث الجارية في قطاع غزة والتصعيد العسكري في البحر الأحمر، وذلك على مستوى دول الجوار المباشر، أو حتى دول المنطقة ككل، وهو الذي سيزيد من حجم نطاق الدول المتأثرة، حيث ستتضرر بعض دول شرق أفريقيا نتيجة تراجع حركة الملاحة البحرية معها، وفي الوقت نفسه ستتأثر كل من السعودية والأردن بذات الأمر، هذا بالإضافة إلى تأثر دول الخليج المصدرة للطاقة والمستوردة أيضاً من أوروبا، وذلك لتعذر وجود طرق تجارية بحرية بديلة مثل طريق البحر الأحمر.

من جانب آخر، إن احتماليّة تراجع واردات دول منطقة الشرق الأوسط، سواء بسبب ارتفاع أسعارها أو تعذر نقل البضائع منها وإليها (على سبيل المثال: أعلنت بعض الشركات الآسيوية وقف نقل البضائع من وإلى إسرائيل، مثل شركة “إيفرغرين”)، يعني في المقابل تراجع صادرات دول أخرى من خارج المنطقة، مما يؤثر على حجم التجارة العالمية، مع الأخذ في الاعتبار أن تراجع حجم الصادرات سيدفع الشركات من خارج المنطقة لوقف استيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج، مما يعني أن الضرر سيطال دورة الإنتاج بأكملها.

وبالنسبة لسوق المال العالمي، فإن ارتدادات التصعيد العسكري بالبحر الأحمر على بعض دول المنطقة قد يزيد من حاجتها للجوء لسوق الدين العالمي لمواجهة الاختلالات الناتجة عن التصعيد، مثل الحاجة إلى توفير العملة الصعبة لتمويل عمليات الاستيراد التي سترتفع أسعارها بسبب تكلفة الشحن المتزايدة، وهو ما قد يخلق ضغوط على تلك السوق، وما ينتج عنه من خلق فقّاعة ديون جديدة في سوق الدين العالمي، وهو مؤشرٌ له ارتدادات سلبية على الاقتصاد العالمي.

وفي السياق ذاته، فإنّ تراجع إيرادات بعض الدول بسبب ارتفاع فاتورة الاستيراد من جهة، وتراجع حجم صادراتها من جهة أخرى، قد يؤدي لتراجع تراكم رأس المال لديها، وبالتالي قد يقلص ذلك بدوره من ضخها للاستثمارات في الاقتصاد العالمي، أو حتى منحها مساعدات للدول للفقيرة أو التي تعاني أزمات، وسيتضح تأثير ذلك بشكل تدريجي، وعلى عدة سنوات.

امتداد التصعيد

إن التصعيد الحالي الذي تشهده منطقة البحر الأحمر، وتحديداً عند مضيق باب المندب، يؤثر على الاقتصاد العالمي على عدة مستويات، وسيكون حجم التأثير متفاوتاً بين المناطق والدول، لا سيما وأنّه من غير المعلوم كيف سيواجه تحالف “عملية الازدهار” الهجمات الحوثية، وإذا ما كان سيتم استهداف الأراضي اليمنية التي يُطلق منها الصواريخ والطائرات المسيرة، أم سيتم الاكتفاء بإسقاطها، وإذا كان ذلك التمركز سيبقى دائماً لحماية الملاحة البحرية أو يستهدف المرحلة الراهنة، فضلاً عن ردود فعل الحوثيين وإيران على ذلك التمركز، والمحتمل أن يمتد إلى استهداف مضيق هرمز بالخليج العربي لإجهاد قوات التحالف البحري، وذلك للتأكيد على توسع جبهات الصراع بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة.