رغم أن العراق أنجز الانتخابات التشريعية في موعدها المقرر في 10 أكتوبر 2021، على عكس ليبيا التي فشلت في إجراء الانتخابات في موعدها المقرر في 24 ديسمبر من العام نفسه، فيما يتواصل الحوار في العراق بين الفرقاء السياسيين للوصول إلى تشكيلة الحكومة وانتخاب رئيس الجمهورية، في حين لا يزال البحث عن توافق سياسي للوصول إلى محطة الانتخابات الليبية هو المستهدف من الحوارات الجارية بين الفرقاء الليبيين؛ إلا أن اللافت أن خطاب القادة والنخب في الحالتين متقارب إلى حد كبير تحت عنوان “الانسداد السياسي” والبحث عن مخرج من المأزق الراهن في المسار الانتقالي الذي تمر به كل من بغداد وطرابلس. بل إنّ ما يكتسب أهمية وزخماً أكبر في الحالتين هو الحديث عن أولوية بناء الدولة الوطنية، بالإضافة إلى قضية السيادة في ظل التدخلات الخارجية في الأزمة والسيناريوهات المستقبلية الصعبة إذا ما استمرت على حالها أو خرجت عن السيطرة، على نحو يُشير إلى القواسم المشتركة في الحالتين.
إشكاليات عديدة
تسلط الأزمتان الضوء على إشكاليات عمليات الانتقال السياسي من جهة، فضلاً عن أنهما تطرحان سؤالاً رئيسياً بشأن دور الانتخابات في العملية السياسية، حيث إنّ هناك حالة شهدت إجراء انتخابات وأخرى لم تشهد لكن النتيجة واحدة، وهناك نخبة سياسية تدور في فلك الوصول إلى السلطة، وقوى ثانية تسعى إلى تدوير نفسها من مرحلة إلى أخرى.
ففي العراق، قال الرئيس برهم صالح خلال احتفالية في ذكرى تأسيس منظمة بدر، في 19 أبريل الجاري، وبحضور رئيسي البرلمان والحكومة، إن “الانسداد السياسي الراهن في إنجاز الاستحقاقات الدستورية وتشكيل حكومة جديدة بعد خمسة أشهر على إجراء الانتخابات، بات أمراً مقلقاً وغير مقبول، ويؤدي، لو استمر، إلى انزلاق البلد في أتون متاهات خطيرة”، مضيفاً أن “هناك من يريد أن يشغل العراقيين بصراعات داخلية تستنزف قوتهم وتضعف كيانهم، ولا يُمكن للعراقيين أن يقبلوا بذلك، ولن يتنازلوا عن حقهم في دولة وطنية. فالعراق المستقل ذو السيادة يمثل مصلحة العراقيين وأساس مشروعهم الوطني”. فيما أشار رئيس البرلمان محمد الحلبوسي في الاحتفالية ذاتها إلى أن هناك توجهاً إقليمياً مسانداً للحل. بينما شخّص رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي الأزمة في أن القوى تضع العراقيل في طريق الانسداد السياسي بدلاً من أن تجتهد في البحث عن حلول. وأشار هادي العامري أمين عام منظمة بدر إلى الظروف الاستثنائية ومخططات الأعداء، داعياً إلى مراجعة شاملة للخروج من المأزق الراهن.
وفقاً لهذه التصريحات الكاشفة عما يدور في كواليس المباحثات والمشاورات العراقية بشأن أزمة تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس الجمهورية؛ يمكن القول إن النخب قادرة على تشخيص الحالة السياسية، وأسباب الانسداد السياسي والتداعيات المحتملة له، كما أن كل طرف يطرح وجهة نظره للحل باللهجة نفسها لكن بخلفية ومضامين وراءها مقاصد متعارضة، فالمؤكد أن الحديث عن التدخلات الخارجية التي تستهدف السيادة الوطنية التي يشير إليها برهم صالح يتعارض تماماً مع منظور العامري عندما يشير إلى “مخططات الأعداء” القادمة من الخارج.
ويبدو السياق ذاته قائماً في الحالة الليبية، فالمستشار عقيلة صالح رئيس البرلمان يعتبر أن خريطة الطريق الجديدة التي أصدرها البرلمان في 10 فبراير الماضي هي منتج لحوار وطني تحت قبة البرلمان يعارض أي محاولة للتشويش عليه ويعتبرها تدخلاً في السيادة الوطنية. كذلك تتحدث باقي الأطراف المعنية والمنخرطة في التفاعلات السياسية باللهجة ذاتها عن السيادة وإعادة الاعتبار للدولة الوطنية، وأن الانتخابات يمكن أن تقود إلى إنهاء الانقسام، لكن كل طرف يقدم مشروعه للحل باعتباره مشروع إنقاذ سياسياً للخروج من المأزق الراهن، وبالتالي تحولت حالة الانسداد إلى ما يشبه حالة الشلل السياسي المؤقت.
ارتدادات صعبة
انطلاقاً من ذلك، يمكن القول إن الانسداد السياسي في دول الأزمات بات يفرض ارتدادات صعبة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- معضلة الاستحقاقات السياسية المؤجلة: لم تعد الأزمات مقتصرة على اتساع نطاق الخلافات بين القوى السياسية، بل إن تأثيراتها امتدت إلى المؤسسات والقواعد الحاكمة للتفاعلات التي تجري فيما بينها. ففي العراق، تحولت إشكالية الانتخابات الرئاسية إلى المحكمة العليا، بالتوازي مع تسليط الضوء على الدستور العراقي فيما يتعلق بإجراءات تشكيل السلطة. أما في ليبيا، فقد اتجهت الأطراف مباشرة بعد فشل الانتخابات إلى العودة مرة أخرى إلى قضية الدستور الذي لم يخرج إلى النور بالأساس، في حين أن هناك جدلاً بشأن هذا الخروج وتوقيته.
2- تصاعد الجدل حول الصلاحيات: ويعود ذلك في المقام الأول إلى عدم وجود توافق على هذه الصلاحيات. فالقوانين التي وضعت، في الحالة الليبية، خلال المرحلة الانتقالية منحت، على سبيل المثال، الرئيس صلاحيات مطلقة، في حين لا يوجد أساس دستوري لهذا الأمر. ومع تفاقم الصراع على منصب الرئيس وفقاً لهذه الصلاحيات، وصلت الانتخابات إلى طريق مسدود وظل الصراع على السلطة هو الأمر القائم. وفي العراق، ورغم أن احتمال التمديد لحكومة مصطفى الكاظمي يتزايد تدريجياً، في ظل استمرار الخلافات بين القوى السياسية حول طبيعة الحكومة القادمة وهوية رئيس الجمهورية؛ إلا أن تصور كل طرف لصلاحيات هذه الحكومة سيبقى قائماً، ولن يؤدي إلى تسوية الأزمة الحالية أو تعزيز فرص احتواء تأثيراتها.
3- تعدد وتضارب المرجعيات القانونية: ويبدو ذلك جلياً في الحالة الليبية تحديداً، حيث تصاعدت حدة الخلافات بين الفرقاء الليبيين حول إعادة تفعيل الدائرة الدستورية في المحكمة العليا، التي يمكن أن تحسم جانباً كبيراً من الجدل القائم. ومن دون شك، فإن ما يساهم في توسيع نطاق هذه الخلافات هو وجود أكثر من مجلس أعلى للقضاء في إطار الفوضى المؤسسية التي تشهدها ليبيا، وهو انعكاس آخر لوجه الأزمة ذاتها.
4- تزايد احتمالات اندلاع صراعات مسلحة: تتصارع القوى العراقية حول السلطة بمؤسساتها القائمة والموحدة، وربما رسخت التجربة العراقية قيمة أن المؤسسة هي عنوان المشروعية. في حين يبدو أن الوضع مختلف في ليبيا، حيث يمكن أن يقوم كل فريق بتشكيل حكومته. وهنا، فإن المخاوف تكمن في أنه أياً كان الموقف من هذه المؤسسات، فإن احتمالات اندلاع صراعات مسلحة أو تجددها يتزايد. ففي العراق، لم يعد هناك مجال لاستبعاد حدوث هذا السيناريو، ولا سيما بين القوى السياسية الشيعية. في حين سيكون الصراع في ليبيا مختلفاً عن الصراعات السابقة، فالمتوقع في حال اندلاعه أن يكون بين قوى وفصائل من غرب البلاد، على عكس الوضع السابق (حرب شرق – غرب). لكن ربما يمكن القول إن ما قد يساهم في تراجع فرص تحقق هذا السيناريو هو إدراك القوى السياسية المختلفة للعواقب التي يمكن أن تنجم عنه، فضلاً عن أن حسابات القوى الإقليمية المعنية بتلك الأزمات قد لا تفضل الاستناد إلى هذا الخيار في المرحلة الحالية.
السيناريو التالي
يبحث كل طرف عن سيناريو للخروج من الانسداد السياسي الراهن، لكن لا يعتقد أن ما هو مطروح على طاولة البحث والتشاور أو ما تستعرضه الأطراف من رؤى قد يشكل المخرج المتصور. فالطرح الخاص بذهاب تحالف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى مقاعد المعارضة على نحو ما جرى في السابق يرجح أنه لن يحل الأزمة، بل سيعيد إنتاج الأزمة مجدداً في أقرب فرصة. كما لا يمكن أن يشكل انفراد البرلمان الليبي برسم مسار انتقالي وتشكيل حكومة جديدة الحل، بل إنه سوف يؤدي بدوره إلى إعادة إنتاج الأزمة. ختاماً، يمكن القول إن الانسداد السياسي هو عنوان مرحلي في الأزمات السياسية الراهنة، والمتصور، وفق المراقبين وربما الساسة، أن هذا الانسداد هو عَرَض وليس مرضاً في حد ذاته، فالأزمة السياسية في العراق لا تشكل متغيراً أو تحولاً فارقاً غير مسبوق في المشهد العراقي في مرحلة ما بعد ٢٠٠٣. كذلك لا يختلف الوضع في ليبيا عن سياق ما بعد ٢٠١١، فقد أشار سياسيون ليبيون إلى أن المؤسسات القائمة تآكلت شرعيتها وأنها بحاجة إلى التغيير، وهو ما تؤكده الأمم المتحدة التي تتولى جهود عملية التسوية هناك.