فوجئ العديد من دول وشعوب منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، ودول وشعوب العالم بصفة عامة، ببيان ثلاثى مشترك يضم الصين كوسيط، والسعودية وإيران كطرفى صراع، يؤكد اتفاقا بصدد استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الأخيرتين فى خلال فترة لا تتجاوز شهرين وتأكيد الالتزام بأسلوب الحوار والدبلوماسية، ومبادئ ومقاصد ميثاق الامم المتحدة ومنظمة التعاون الاسلامى والمواثيق والاعراف الدولية كمرجعيات وأسس تحكم أطر العلاقات بينهما، خاصة مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها الداخلية. وفى هذا الصدد أكد البيان تفعيل اتفاق التعاون الامنى بينهما الموقع فى 17 أبريل 2001 ومضمونه التعاون ضد الإرهاب وتهريب المخدرات وغسيل الاموال. وتفعيل أيضا الاتفاقية العامة للتعاون فى مجال الاقتصاد والاستثمار والتجارة والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب الموقعة عام 1998، والحرص على بذل جميع الجهود لتعزيز السلم والامن الإقليمى والدولى .
إن تضمين البيان إشارة الى مبادئ ومقاصد منظمة التعاون الاسلامى بجانب ميثاق الأمم المتحدة كمرجعيات أمر له مغزى عميق واضح الدلالة، حيث بموجبه يتعين وأد الصراع المذهبى الشيعى السنى، وإجهاض أنشطة الأذرع السياسية العسكرية المشار اليها فى هذا المجال والتى تم وصمها بالارهاب، وانحسار التدخل فى الشأن الداخلى واحترام سيادة الدول، كما أن إحياء العمل بالاتفاقيات المشار اليها، يدفع نحو الكف عن الممارسات التى شهدتها منطقتا الخليج والبحر الاحمر من أعمال وأنشطة تعرقل عمليات الملاحة وتزعزع الأمن والاستقرار فى كل منهما. كما تدفع نحو تنشيط العلاقات بين الجانبين فى المجالات الاقتصادية والاستثمارية بصفة خاصة والاخرى بصفة عامة. وهى أمور فى المجمل تدفع الاطراف نحو تعزيز السلم والامن الاقليمى والدولى .
إن اضطلاع الصين بدور وسيط بين طهران والرياض لإنهاء سنوات العدائيات، جاء فى توقيت يتسق ومصالح الصين وأيضا الاطراف المعنية، حيث جاء نجاح الصين فى ظل تنامى وتعاظم وجودها فى منطقة الشرق الاوسط بعد مؤتمر القمة العربى الصينى الذى عقد بالرياض عام 2022 ، وما حققه من نتائج إيجابية، خاصة أن الشرق الاوسط ـ فى ظل الأزمة العالمية لأمن الطاقة ـ أكبر مورد للنفظ والغاز للصين (47 % من واردات الصين من المنطقة معظمها من السعودية)، فى الوقت نفسه الذى لم يحقق مؤتمر القمة العربية الامريكية نجاحا فيما يتعلق بسعى الجانب الامريكى لإقامة حلف شرق أوسطى، أو دور سعودى فى مجال تأمين إمدادات الطاقة لأوروبا ليتراجع النفوذ الامريكى. كما أن إيران تزداد عزلتها اقليميا ودوليا وتتعرض لضغوط أمريكية وأوروبية بسبب الملف النووى والذى تم تجميده فى وقت بدت فيه إرهاصات لاتفاق سعودى / حوثى على وقف إطلاق نار غير رسمى فى إطار الحرب الدائرة بين الجانبين بصدد الأوضاع المتدهورة فى اليمن من جميع جوانبها. هذا فضلا عن أن الحليف الاقرب لطهران وهى روسيا منشغلة بالحرب فى أوكرانيا.
لقد جاءت الوساطة الصينية عقب سلسلة من الاجتماعات التى جمعت بين ايران والسعودية بوساطة من جانب سلطنة عمان ومن جانب العراق، حيث فتحت الباب أمام إمكانية إجراء مفاوضات بين الطرفين، لتمهد بذلك الطريق امام الوساطة الصينية التى سجلت نجاحا غير مسبوق فى صراع بمنطقة كانت النفوذ التقليدى لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبى.
إن عودة العلاقات واقترانها بالتطبيع، من شأنها أن يتمخض عنها مردود إيجابى على الأمن والاستقرار فى المنطقة، خاصة فى الدول التى تشهد حالات من الصراعات والنزاعات ذات البعد الاقليمى والدولى، ولايران دور محورى فى كل منها. أبرز الصراعات والنزاعات تدور فى اليمن والعراق وسوريا ولبنان. وهو الأمر الذى يستوجب من مجمل دول المنطقة أن تنشط فى تحركاتها نحو دعم هذا التطور على نحو يتم معه احتواء ايران كإحدى دول الجوار العربى سواء فى إطار العلاقات الثنائية أو المتعددة أى الجامعة العربية، بأن تتأسس العلاقات معها على المرجعيات المشار اليها، بما فى ذلك علاقات حسن الجوار وعدم التدخل فى الشأن الداخلى واحترام سيادة الدول ووحدتها الإقليمية والأمن المتبادل والمصالح المشتركة، مع إمكانية أن تنظر الجامعة العربية فى اطار هذا التطور وبصدده فى صيغة علاقة مؤسسية مع دول الجوار العربى.
من المؤكد أن هذا التطور قد لا يروق لكل من اسرائيل والولايات المتحدة مهما قيل من كلمات ترحيب من أى منهما، حيث جاءت تلك الكلمات مقترنة، من جانب الولايات المتحدة بتحفظات عما إذا كانت إيران ستلتزم بهذا النهج، وكذا الأمر بالنسبة لإسرائيل. بل قد يشكل ورقة ضغط على اسرائيل والادارة الامريكية فيما يتعلق بالإجراءات الاحادية والممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطينى فى الاراضى المحتلة والدفع نحو استئناف المفاوضات على أساس حل الدولتين. تجدر الاشارة الى ان مبادرة الصين بالوساطة بين الطرفين جاءت فى تواكب مع بداية الولاية الثالثة للرئيس الصينى، والتى اقترنت بتوجه صينى نحو الاضطلاع بدور فى تحقيق الامن والاستقرار فى مناطق النزاعات والصراعات المسلحة، التى بدأت إرهاصاتها بتعيين مبعوث صينى لمنطقة القرن الإفريقى وعقده مؤتمرا للسلام والتنمية فى أديس ابابا فى نهاية العام الماضى، وأكد فى تصريحاته هذا التوجه، كما أنشأت الصين قاعدة عسكرية فى جيبوتى وأخرى فى غرب إفريقيا، وتنامى مشاركتها فى قوات حفظ السلام، وطرحت مؤخرا رؤيتها لتحقيق تسوية للأزمة الأوكرانية، وتجىء وساطة الصين بين ايران والسعودية كحلقة فى هذه السلسلة الممتدة.
نقلا عن الأهرام