لا يجدُ زائر تركيا هذه الأيام لافتات ولا صوراً للرئيس رجب طيب إردوغان، ولا لزعيم المعارضة في الشوارع أو على المباني؛ هذا الغياب يبدو خادعاً إلا أنه يخفي تحته اختلافات، وانشطارات مجتمعية. فالمستمع لكلام الناس يلحظ على الفور عمق الانقسام في المجتمع التركي حول مَنْ سيحكم تركيا بعد انتخابات عام 2023. يقول سائق سيارة الأجرة التي أقلتني لمنطقة شيشلي المعروفة بليبراليتها عندما لاحظ تأملي في المحلات المليئة بأفضل المنتجات الأوروبية، وبالمقاهي الفاخرة، إن «سكان هذه المنطقة هم ضد إردوغان، وليسوا مثلنا»، قاصداً أنهم أكثر قرباً للحياة الأوروبية منهم للحياة الشرقية التركية. وتابع قائلاً: «ملايين الناس مع إردوغان وملايين ضده، لكنه سينتصر»؛ وحتى المثقفون الأتراك يدركون حجم الانقسام في المجتمع التركي سياسياً وثقافياً وتاريخياً. هذا الواقع يمثل تحدياً كبيراً لمستقبل تركيا، لأن انتصار أي فريق لا يعني تبادل الأدوار على السلطة بل السير بالبلاد نحو وجهة مختلفة لا يريدها الفريق الخاسر ولا يقبلها؛ هكذا تصبح العملية الديمقراطية باباً نحو المجهول وليس مدخلاً لمستقبل أفضل.
الرئيس التركي إردوغان الذي يواجه وضعاً اقتصادياً صعباً، وتقاطعات دولية حادة، وانتخابات في غاية الأهمية لمستقبله السياسي، مدرك لهذا الواقع، ولتعاظم قوة المعارضة بسبب الأزمة الاقتصادية التي أرهقت كل طبقات المجتمع التركي وبالتحديد الطبقة المتوسطة وطبقة العمال؛ وإدراكاً منه لهذا، ولكي لا تكسب المعارضة على حسابه، أعلن من مدينة أزمير، وبالذات من المنطقة التي يمثلها زعيم المعارضة من الحزب الجمهوري كمال كلجيدار أوغلو في البرلمان التركي، أن الانتخابات القادمة ستكون في 23 يونيو (حزيران) من عام 2023، وأنه المرشح الرسمي لتحالف الشعب. هذا الإعلان هو تحدٍ واضح للمعارضة، وتحدٍ مباشر لتسمية مرشحها، وهو ما لا يبدو ممكناً بسبب اختلاف المعارضة على مرشحها؛ فالمعارضة غير متفقة على شيء إلا على إزاحة إردوغان من السلطة، ويبدو أن هذا الاختلاف، ما لم تتداركه، فإنه سيكون سبباً مباشراً في بقاء إردوغان في سدة السلطة. مشكلة المعارضة أنها تتشكل من ثلاث قوى، إسلامية وعلمانية وقومية، وكردية، وجميعها يحمل توجهات متناقضة، ومن الصعب أن يتوحدوا على منصة واحدة، وإن توحدوا فلن يكون بوسعهم وضع برنامج مشترك يعالج التشظي الموجود في المجتمع، أو إنقاذ الاقتصاد المتدهور، أو السياسة الخارجية المتأزمة. وللتدليل على عمق الأزمة فإن حزب الجيد المنشق عن الحزب القومي التركي والذي له شعبية جيدة، لا يستطيع أن يهضم التحالف لا مع الأكراد ولا مع الأقليات؛ فقد أعلن نائب مهم في الحزب هو هلال إبراهيم أورال أن ترشيح زعيم الحزب الجمهوري كمال كلجيدار كمنافس لإردوغان لن يلقى الترحاب من الأكثرية السنية لكونه من الطائفة العلوية؛ وتدرك قيادات الأحزاب الإسلامية المنشقة عن حزب العدالة والتنمية التي يتزعمها أحمد أوغلو، رئيس الوزراء الأسبق، ووزير المالية علي بابجان، وكذلك حزب السعادة الذي يمثل خط أربكان، تدرك أن جماهيرها في النهاية لن يؤيدوا أحداً من الليبراليين أو القوميين أو العلمانيين ولن يفضلوا مرشح المعارضة إن لم يكن إسلامياً على إردوغان؛ هذا ليس سراً بل يتحدث عنه في الجلسات الخاصة مقربون من حزب السعادة ويقولون إنهم سيعطون أصواتهم في الجولة الثانية للرئيس إردوغان. وبناءً على هذه الوقائع فإنه لا الحزب الجمهوري ولا غيره قادر بمفرده على هزيمة إردوغان، ولا هم قادرون على الاتحاد ووضع برنامج مشترك وتقديم مرشح واحد يتمتع بمزايا قيادية تؤهله لمنافسة إردوغان.
ما يقلق المعارضة أن إردوغان يسيطر على أجهزة الدولة، وبوسعه أن يصطنع أزمات في ملفات سياسية منها التصعيد مع اليونان، وتحويل الخلاف حول الجزر وشرق المتوسط، إلى مسألة قومية تتعلق بسلامة الوطن التركي، أو بشن حرب جديدة على الأكراد في شمال سوريا، وخلق واقع لنقل لاجئين سوريين من تركيا إلى الحدود السورية، وبالتالي التخلص من ورقة اللجوء السوري التي تستخدمها المعارضة ضده؛ أو يُصعد الخلاف مع الناتو حول انضمام السويد وفنلندا ليحصل على تنازلات يستخدمها في الحملة الانتخابية؛ كل هذه الأزمات تتخوف منها المعارضة لأنها ستكون ورقة شعبوية يثير فيها حماسة الجماهير ويجبر المعارضة على مسايرته؛ لذلك تدرك المعارضة أن الاقتصاد هو ورقتها الوحيدة لإضعاف إردوغان والنيل من شعبيته؛ ففي ملاسنة بين مواطن تركي ومسؤول من حزب إردوغان يظهر جلياً عمق الغضب من الاقتصاد؛ يقول المواطن إنه كتاجر «ليس سعيداً وإن المسؤولين في حزب العدالة والتنمية يعرفون ذلك بنسبة 99 في المائة»، ووصف أداء الحزب بأنه «مدمر للتجار». هذه الملاسنة تعبر عن الأزمة التي يعيشها حزب إردوغان الذي لطالما اعتمد على هذه الطبقة من التجار، وموقفها مؤشر على عدم التصويت له في الانتخابات القادمة. لكن مشكلة المعارضة أنها تعارض كلامياً وليس لديها برنامج بديل يعيد للناس الثقة بها، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية؛ فالمعارضة بسبب اختلافاتها الآيديولوجية غير قادرة على وضع برنامج، وهذا يمثل ثغرة انتخابية خطيرة.
هذه الصورة للواقع السياسي لا تبشر بخير لتركيا، لأن البلاد لن ترى في نتيجة الانتخابات المرتقبة حسماً بل تزايداً في التأزم؛ معسكر المعارضة يرى أن بقاء إردوغان خطر كبير عليها وعلى الوطن التركي ويؤمن بأن بقاء إردوغان في السلطة سيغير وجه تركيا للأبد، وستصبح هي مهمشة وغريبة في وطنها. ويرى بالمقابل معسكر إردوغان أن انتصار المعارضة سيغير تركيا وسيقتل طموحها العثماني، ويقزم دورها إقليمياً ودولياً؛ هذا العمق في الانقسام سيجعل كلاً من المعسكرين يرفض الآخر ولا يعترف بشرعيته ويتحول بذلك الانتخاب الدستوري من وسيلة لإزالة الخلاف إلى باب مفتوح على كل الاحتمالات الخطرة وغير المتوقعة.
نقلا عن الشرق الأوسط