اليوم السابق «٢ ــ ٢» – الحائط العربي
اليوم السابق «٢ ــ ٢»

اليوم السابق «٢ ــ ٢»



ركزت المقالة السابقة على أهمية الحديث عن اليوم السابق فى مواجهة التركيز الشديد على ترتيبات اليوم التالى، وهو تركيز مطلوب ومحمود حتى لا تفاجئنا نتائج الحرب دون استعداد، بشرط عدم إغفال اليوم السابق، لأنه هو الذى يفسر ما حدث فى ٧ أكتوبر الماضى، ويضع أسس الخروج من الوضع الذى نجم عن أجرأ وأقوى عملية تقوم بها المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، وأكثرها فاعلية وتأثيرًا فى الوقت نفسه، فاليوم السابق هو الذى يحسم طبيعة ما يجرى باعتباره عملًا من أعمال التحرر الوطنى من حالة تُعَد من الحالات الأبغض فى تاريخ الظاهرة الاستعمارية، إن لم تكن الأبغض، بما ينفى عن ٧ أكتوبر تهمة الإرهاب نفيًا قاطعًا، وبناء عليه فإن اليوم التالى لا يمكن أن يكون إلا يوم التحرير استنادًا إلى قرارات الشرعية الدولية العديدة، وتضحيات الشعب الفلسطينى، الذى أثبت جزء من مقاومته أنه أكثر من ند لإسرائيل وتحالف العدوان الذى يساندها الآن فى محاولتها للفتك بشعب فلسطين فى غزة والضفة، وطرده مما تبقى من أرضه، ولقد استعرض الجزء الأول من المقالة وقائع «اليوم السابق» بدءًا من موجات الهجرة اليهودية لفلسطين فى ظل الانتداب البريطانى فى عشرينيات القرن الماضى وحتى تأسيس إسرائيل الذى استند إلى أعمال إرهابية بامتياز، ما يجعل ٧ أكتوبر الماضى دعابة بالنسبة للأهوال التى صاحبت نشأة إسرائيل وما بعدها، وصولًا إلى احتلال إسرائيل كامل الأراضى الفلسطينية بعد عدوان ١٩٦٧، وممارساتها الإرهابية كسلطة احتلال على نحو ما أوضحته المقالة الماضية، التى توقفت عند الحكومة الحالية التى تجاوزت كل حدود الممارسات الإرهابية السابقة بالتغول فى الاستيطان والاعتداء على أصحاب الأرض، والإمعان فى تدمير ممتلكاتهم ومنشآتهم، والاستخفاف التام بمقدساتهم الدينية، وبصفة خاصة الانتهاكات غير المسبوقة لحرمة المسجد الأقصى، ووضع ترهاتهم بوجود الهيكل تحته موضع التطبيق باقتحامات المسجد وممارسات شعائرهم فيه، وإخراج المصلين منه والاعتداء عليهم، ناهيك بتصاعد الانتهاكات الإجرامية لحرمة الحجر والبشر فى الممارسات اليومية لقوات الاحتلال فى الضفة، ورغم التعود على إجرام هذه الممارسات فإن الاحتلال فى ظل الحكومة الحالية كان قادرًا على إدهاشنا بالمدى الذى وصل إليه امتهان حقوق الإنسان الفلسطينى، وقد ذُهِلت مثلًا فى يوليو ٢٠٢٣ فى أكبر حملة إسرائيلية على جنين منذ٢٠٠٢من أن القوات الإسرائيلية كانت تدخل منازل المطلوبين من المشتبه فيهم بهدم الجدران المشتركة لمنازلهم مع المنازل المجاورة تأمينًا لنفسها، ناهيك بتصريحات وزير المالية الإسرائيلى سموتريتش الخاصة بمحو بلدة حوارة من الوجود.

يبدو تذكر هذه الممارسات مهمًا لتقييم دموع التماسيح واللوعة التى يبديها كل مسئول ورجل إعلام إسرائيلى بخصوص ما يعتبرونه جريمة نكراء ارتُكِبَت بحق إسرائيل فى ٧ أكتوبر الماضى، وهى تُعَد دعابة كما سبقت الإشارة بمقاييس الجرائم الإسرائيلية، ناهيك بعدم تقديم دليل حتى الآن على صحة الاتهامات بذبح الأطفال واغتصاب الإناث، بل إن التقارير أثبتت أن نسبة يعتد بها من قتلى ذلك اليوم جاءت على يد القوات الإسرائيلية، وتنطبق الفضيحة نفسها على البكاء بشأن الأسرى والمحتجزين (أقل من٢٥٠)، فى وقت تُبقى فيه إسرائيل على آلاف الأسرى فى سجونها (حوالى ٧ آلاف)، فضلًا عن قرابة ٥آلاف قامت باعتقالهم منذ ٧ أكتوبر الماضى، وهو ما يؤكد النظرة الدونية التى تنظر بها للفلسطينيين، واستنادًا لتصوير إسرائيل لبشاعة الجُرم الذى ارتكبته المقاومة بحقها انطلقت فى انتقامها المروع وفقًا لوصف رئيس وزرائها، فقتلت حتى الآن ما يزيد على ٢١ ألف شهيد، ناهيك بمن لايزالون تحت الأنقاض، وجرحت ما يزيد على ٥٠ ألفا، ودمرت مستشفيات غزة ومدارسها ومساجدها وكنائسها ونحو ثلثى مبانيها، ناهيك بالحرمان من مقومات الحياة كافة، بحيث لم تعد المساعدات اليسيرة التى تصل الى غزة من معبر رفح كافية لحماية أهلها من الجوع والعطش والأمراض والأوبئة، وذلك كله دون أدنى مؤشر على استيعاب الدرس، مع أنه درس قديم تكرر فى كل خبرات التحرر الوطنى، بل وتكرر فى غزة بصفة خاصة منذ أُجبرت إسرائيل على الانسحاب الكامل منها فى ٢٠٠٥، واضطُرت لاحقًا إلى تكرار العدوان عليها فى ٢٠٠8/٢٠٠9 و٢٠١٢ و٢٠١٤ و٢٠١٩ و٢٠٢١ و٢٠٢٢وأخيرًا فى مايو ٢٠٢٣ قبل عملية الانتقام من ٧ أكتوبر بهدف اجتثاث المقاومة، لتخرج فى كل مرة رغم الشهداء والخسائر المادية أقوى مما كانت، بدليل ما نراه اليوم من صمود أسطورى لفصائلها فى شريط من الأرض أمام جيش يروق له أن يصف نفسه بأنه الجيش الرابع فى العالم، مدعوما بترسانة أسلحة القوة العظمى عسكريًا، ومشاركة فى المجهود الحربى من بريطانيا، وتحالف بحرى يصد عن إسرائيل هجمات الحوثيين، ومرتزقة من بلدان أوروبية ثبت وجودهم فى العمليات القتالية، بما يكشف هشاشة العنصر البشرى فى معادلة القوة الإسرائيلية، ومع ذلك فلا يوجد أدنى مؤشر على أن القيادة الإسرائيلية تفهم شيئًا من الخبرة الماضية، أو استوعبت ولو بعضًا من دروس التجربة القتالية الحالية، وهذا هو دأب أصحاب العقليات الاستعمارية المصابة بعمى الإدراك، ويُضاف بالنسبة لهذه القاعدة الثابتة تاريخيًا أن لنيتانياهو أسبابه الخاصة المعروفة التى تزيد من عجزه عن الفهم، وهى أنه يعلم تمامًا أن مستقبله السياسى قد انتهى، وأن الأمل الوحيد – وهو فى كل الأحوال أمل كاذب – فى بقائه على مسرح السياسة هو أن يحقق أهدافه المعلنة من حربه الوحشية على غزة، أى تحرير الأسرى والمحتجزين بالقوة واجتثاث حماس، وهما هدفان لم يتحقق منهما شىء حتى الآن، بل لقد لاحظت من متابعة استجابة النظم الاستعمارية – وبالذات العنصرية منها – لتصاعد حركات التحرر الوطنى أن هذه النظم تزداد تطرفًا فى المراحل النهائية من حياتها، ولا أنسى تصريح إيان سميث رئيس وزراء النظام العنصرى فى روديسيا الجنوبية (زيمبابوى الحالية) قبيل استقلالها وتصفية ذلك النظام، بأنه لن يشهد فى حياته ولا حياة أولاده وأحفاده حكم الأغلبية السوداء الذى خضع له صاغرًا بعد وقت قصير من تصريحه هذا.

وهانحن نرى قمة التطرف فى تصريحات مسئولين إسرائيليين عن تفريغ الأراضى الفلسطينية من سكانها، وعن السيطرة الإسرائيلية الكاملة على غزة بما فيها محور فيلادلفيا، فى عجز مطلق عن فهم دروس التاريخ ودلالات الحاضر.

كاد الدرس ينتهى بينما مازالت إسرائيل وبالذات نخبتها المتطرفة عاجزة عن إدراك أن اليوم السابق هو الذى يفسر حسن الاستعداد وضراوة القتال من قِبَل المقاومة فى أدائها فى اليوم الحالى، وهو الذى سيفرض ضرورة التحرر الكامل فى اليوم التالى بإذن الله.

نقلا عن الأهرام