مقاربة وقتية:
اليمن وتحوّلات مسار التصعيد الحوثي

مقاربة وقتية:

اليمن وتحوّلات مسار التصعيد الحوثي



تتبنى المليشيا الحوثية تكتيك التصعيد المسلح للحصول على ما لم تحصل عليه بالتسوية أو بالتوافق السياسي. فعلى وقع إفشالها تجديد الهدنة، التي تُعلّقها على شروط منها تمويل الحكومة الشرعية لرواتب الموظفين من خلال تقاسم عوائد النفط، شنّت المليشيا، في 18 و19 أكتوبر الجاري، هجمات على موانئ شحن النفط في شبوة ثم حضرموت بالطائرات من دون طيار، معتبرة أن هذه الهجمات- التي لم تخلف أضراراً كبيرة- بمثابة تحذير للأطراف قبل موجة التصعيد التالية إن لم يتم تنفيذ مطالبها.

ولا يُعتقد أن الأطراف المعنية بإدارة ملف الأزمة اليمنية يمكنها التجاوب مع المطالب الحوثية في ضوء التنديد الإقليمي والدولي بالهجمات الحوثية، لكن سيتعين عليها تقييم المخاطر التي ستنجم عن التصعيد في المستقبل على القطاع النفطي الحيوي في اليمن، وإمكانية توفير وسائل التأمين والردع لإحباط مثل هذه الهجمات، أو التوصل إلى بدائل سياسية.

أبعاد متعددة

يمكن تصور أن حسابات التصعيد الحوثي لاستهداف قطاع النفط تأتي في سياق عدة أبعاد، منها -على سبيل المثال- أن المليشيا تريد الإبقاء على مخرجات الهدنة مع التحالف، من حيث استمرار تدفق شحنات النفط والسفن التجارية، بالإضافة إلى استمرار تشغيل مطار صنعاء، لكنها -في الوقت ذاته- تهدف إلى تعزيز مكتسبات الهدنة من خلال تقاسم عوائد النفط، أو بصيغة أخرى “تقاسم الثروة”، في حين أنها لم تقبل بعد الانقلاب بعملية “تقاسم السلطة” منذ اتفاق السلم والشراكة، وصولاً إلى كافة مسارات التفاوض الخاصة بعملية التسوية. والعامل الآخر هو أنها يمكن أن تستهدف مصالح العديد من القوى الدولية التي يتم شحن النفط لها في ظل أزمة الطاقة العالمية، بزعم أن الصراع داخلي وليس خارجياً على نحو ما كانت تفعل من قبل.

لا يختلف تكتيك المليشيا على هذا النحو عن التكتيكات التي تتبعها إيران بشكل عام كمنهج للتسوية، حيث تعمد إلى محاولة الضغط بالقوة لدفع الطرف الآخر إلى القبول بشروط التسوية، وأن أي خطوة للتفاوض يجب أن تتحول إلى صفقة تعود بالمقابل. ومما يعزز من هذه الفرضية موقف إيران من الهدنة في اليمن والذي تم الإعلان عنه، في 7 سبتمبر الفائت، خلال الزيارة التي قام بها رئيس الوفد الحوثي للتفاوض محمد عبد السلام ولقائه العديد من المسئولين الإيرانيين، ولا سيما لقاءه مع علي أكبر ولايتي، مستشار الشئون الخارجية للمرشد الأعلى الإيراني، والذي أكد للقيادي الحوثي أهمية أن تعزز عملية استئناف الهدنة أو توسعتها من المكاسب الحوثية.

ويمكن تصور فرضية أخرى تتمثل في دور المسيرات الإيرانية التي تستخدمها المليشيا الحوثية أيضاً في استهداف روسيا لمواقع الطاقة والبنية التحتية حالياً في أوكرانيا، وهو سياق ربما تحاكيه المليشيا الحوثية في اليمن.

من زاوية أخرى، تدرك المليشيا الحوثية أن طبيعة موازين القوة الحالية لن تسمح لها بالمزيد من التمدد للوصول إلى مصادر الطاقة في البلاد، حيث فشلت على مدار أكثر من عامين في اختراق جبهة مأرب في مواجهة قوات الجيش، ثم فشلت لاحقاً في اختراق جبهة شبوة، حيث تعرّضت لهزيمة على يد قوات العمالقة، وبالتالي فإن اللجوء للتصعيد عبر الطائرات المسيرة يعد بديلاً للمليشيا للضغط على الأطراف.

ويمكن استدعاء النموذج الإيراني أيضاً في اختبار هذا النوع من التصعيد قبالة السواحل اليمنية، حينما كانت طهران تستهدف سفن الشحن، لكنها في الأخير اضطرت إلى التراجع بفعل تطوير القيادة الوسطى الأمريكية لأدوات الردع، ومنها إنشاء القوة المشتركة (153) لتعزيز الأمن في البحر الأحمر وباب المندب.

خيارات موازية

مبدئياً، فنّدت الحكومة اليمنية حجج المليشيا الحوثية لعرقلة التوصل إلى توافق بشأن ملف الرواتب، إذ كشف وزير الإعلام اليمني معمر الأرياني أن المليشيا رفضت تحويل الرواتب وفقاً لكشوف الموظفين ما قبل الانقلاب الحوثي، وتحديداً كشوف عام 2014، حيث استبدلت المليشيا الحوثية لاحقاً موظفي الدولة بموظفين موالين لها في كافة المؤسسات التي تسيطر عليها، ومن ثم فإن المليشيا تريد دفع رواتب موظفيها وليس موظفي الدولة الذين فصلت الآلاف منهم.

لكن في خطوة أخرى، صعّدت الحكومة اليمنية سياسياً بإدراج المليشيا كجماعة إرهابية، والتلويح بالانسحاب من اتفاق استكهولم، في مؤشر على اتجاهها نحو التصعيد المقابل، وأنها بصدد تجاوز الإملاءات الحوثية على عملية التفاوض بشأن العودة إلى الهدنة.

ومن الناحية العملية، يمكن القول إن كلاً من الهدنة أو الإبقاء على اتفاق استكهولم كان بمثابة قيود على الحكومة، فخلال فترة الهدنة لم تتوقف الانتهاكات الميدانية الحوثية، ومن قبلها لم تلتزم المليشيا بالحد الأدنى لمقررات استكهولم، بل على العكس من ذلك صعّدت عسكرياً ضد قوة المراقبة الدولية في الحديدة، والقوات المشتركة في العديد من الجبهات. وإجمالاً فإن قرار الحكومة الشرعية يعني فقدان الأمل في إمكانية التوصل إلى تفاهمات سلمية مع الحوثيين، مما يعني العودة مجدداً لاعتماد الخيار العسكري.

لكن اعتماد الخيار العسكري من جانب الحكومة سيشكل تحدياً في ضوء متطلبات الدفاع والردع. صحيح أن المليشيا الحوثية لم تفرق من قبل ما بين البنية العسكرية والمدنية، لكنّ إدخال البنية الحيوية المدنية في معادلة التصعيد هو ما سيفرض هذا التحدي، بالنظر إلى حالة الانكشاف الدفاعي لهذه البنية. ولا يعتقد أن توفير آليات دفاعية مسألة هينة، خاصة مع ارتفاع الطلب على منظومات من هذا النوع، في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية، وتنامي تهديدات “الدرونز” على الساحة هناك، فضلاً عن التكاليف الهائلة لاقتنائها.

لكن -في المقابل- أيضاً فإن مخاطر تعرض السفن لحادث ووقوع أضرار أو ضحايا سيحول مشهد التصعيد إلى اتجاه التدخل الدولي في اليمن، يُضاف إلى ذلك التحدي السياسي، فهناك نوع من التضامن السياسي مع الحكومة في التنديد بالهجمات، لكن لا يوجد القدر نفسه من التضامن في العودة إلى خيار التصعيد المضاد، بل على العكس من ذلك لا تزال هناك تحركات للعودة إلى الهدنة تحت بند خفض التصعيد، وهو ما يشير إليه بيان البعثة الأممية لدى اليمن إزاء تعاطيها مع تلك الهجمات.

مرحلة مختلفة

في الأخير، فإن نقل التهديد بتحويل مسار الحرب إلى الداخل سيظل مقاربة وقتية من جانب المليشيا الحوثية، التي قد تلجأ في حال خسارة الرهان على الضغط بقوة السلاح إلى العودة للتصعيد الخارجي. وتمتلك المليشيا أدوات التصعيد، لكن لا يعتقد أن مسار التصعيد ما قبل الهدنة سيكون كما هو الحال بعدها، إذ إن قدرات الصمود الحوثية على مواصلة الحرب تراجعت إلى حد ما على الرغم من أن المليشيا تحاول إظهار العكس، بينما تواجه تحديات في عملية التعبئة، كما أن مسار تمددها يعني تحركها باتجاه السيطرة على مصادر النفط والغاز، وهي مسألة صعبة للغاية مع تحسن وضع القوات اليمنية، فضلاً عن أن العودة إلى التصعيد بالوتيرة السابقة سيضيق الخناق عليها بخسارة عوائد استمرار مقررات الهدنة التي تستفيد منها.

لكن خارج حسابات المليشيا، تظل هناك حاجة إلى قراءة الموقف الإيراني في ظل تطورات الأوضاع الداخلية المتوترة بسبب استمرار الاحتجاجات، والدور الذي يمكن أن يمارسه الوكلاء الإقليميون كالحوثيين في اليمن. ومن جهة أخرى، ربما ستضع المليشيا في حساباتها مدى تأثر إيران بالضغوط التي تفرضها الاحتجاجات، حيث لم يكتمل بعد مسار “التمكين” الحوثي، وبدون دعم إيران أو حتى مع تقلص الدعم فستتعرض المليشيا للإضعاف، لكن قبل الوصول إلى هذه النقطة لا شك أن كلا الطرفين سيسعى إلى اللجوء إلى وسائل وأدوات القوة والإكراه بشتى الطرق.