هناك قصة شهيرة يحلو للباحثين الغربيين استخدامها لوصف أوضاع منطقة الشرق الأوسط. القصة عن عقرب أراد ان يعبر النهر، فطلب من ضفدع ان يحمله على ظهره لانه لا يستطيع السباحة، ولكن الضفدع قال للعقرب كيف أساعدك وانت عقرب قد تلدغنى واموت بسمك، فرد العقرب من المستحيل ان أقوم بذلك، لأننى إذا لدغتك سنموت معا، ووافق الضفدع وحمل العقرب، ولكن فى منتصف النهر لدغه العقرب ومات الاثنان، وقال الضفدع للعقرب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة لماذا فعلت ذلك، فقال العقرب لا تنسى نحن فى الشرق الأوسط.دلالة القصة أن المنطقة يسودها سلوكيات غير رشيدة وغير منطقية وتضر الجميع.
ولكن المراقب لبعض التطورات السريعة والضخمة التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط فى الفترة الحالية، قد يصل الى قناعة ان هذه الصورة النمطية عن المنطقة بدأت تتغير بعض الشىء، حيث تشهد قدرا من الرشادة وتحولا لكثير من العداءات الى صدقات وتحالفات.
هناك بالتأكيد تفسيرات متعددة لهذه التطورات وكلها تتمحور حول مفهوم الواقعية فى العلاقات الدولية، والتى تتعامل مع الواقع الدولى كما هو وليس كما ينبغى ان يكون، أى استنادا للمعطيات على الأرض وليس الأيديولوجيات والمثاليات، وتسعى لتعظيم مصالح الدول فى اطار هذا الواقع.
نقطة البداية إذن هى التعرف على معطيات الواقع التى دفعت العديد من دول المنطقة إلى تبنى هذه التوجهات الجديدة.
وأول هذه المعطيات هو وصول الرئيس الامريكى بايدن للبيت الأبيض، والذى تختلف طريقة تعامله مع المنطقة، خاصة الحلفاء والأصدقاء، عن طريقة سلفه ترامب، حيث يتبنى نمطا يقوم على التفاعل المؤسسى وليس العلاقات الشخصية مع قادة المنطقة، وتركيزه الاساسى فى قضايا السياسة الخارجية على الصين ومنطقة المحيطين الهادى والهندى، بالإضافة لاهتمامه الأول بقضايا الداخل الامريكى من اقتصاد وصحة واستقطاب سياسى. وبالتالى فإن هدفه فى منطقة الشرق الأوسط هو التهدئة والوفاق الاقليمى، ومنع اشتعال الحرائق، وبحيث لا تضطر الولايات المتحدة للتدخل مرة أخرى فى المنطقة وتفقد تركيزها بالنسبة للاولويات التى وضعتها لنفسها.
هذا التوجه الامريكى بالتهدئة الإقليمية كان له بالتأكيد انعكاس على قضايا المنطقة والعلاقات بين القوى الإقليمية، التى تبنت أيضا هذا التوجه، لأن بعضها لا يريد مصدرا جديدا للخلاف مع الإدارة الامريكية. يضاف لذلك ان التوجه الامريكى نحو تقليل الارتباط بالمنطقة، والعودة للاتفاق النووى مع ايران أصبحت حقائق وليس أفكارا نظرية، وبالتالى فرضت نفسها كواقع، وكان على دول المنطقة إعادة صياغة استراتيجيتها نتيجة لهذا الواقع، والعمل على صياغة تحالفات جديدة.
احد المعطيات الواقعية الأخرى هو وجود حالة وصفها احد المحللين بأنها إجهاد من التنافس الاقليمى، بمعنى ان بعض القوى الإقليمية وصلت لنتيجة انها لم تحقق أهدافها من تدخلها فى نزاعات المنطقة، او مساندتها لوكلاء محددين فى هذه النزاعات، و ان هذه النزاعات لا يوجد بها منتصر، ومن ثم اختارت التوافق مع المنافسين بدلا من استمرار النزاع المكلف معهم.
كما اتضح لبعض القوى الإقليمية مثل تركيا ان الأفكار الأيديولوجية التى تبنتها فى إطار ما عرف بالربيع العربى، لم تحقق اى نتائج، بل كانت رهانا خاسرا، وان الواقع على الأرض اصبح مختلفا تماما، ومن ثم سعت القيادة التركية الى النزول تدريجيا من الشجرة التى صعدت عليها منذ عام ٢٠١١، وظهر ذلك فى توجهاتها الجديدة نحو مصر والمملكة السعودية والامارات العربية.
لا يمكن أيضا إغفال الواقع الاقتصادى الجديد لدول المنطقة، وتأثير جائحة كورونا عليه، والتى ضربت اقتصاديات المنطقة بشدة، وكذلك التحديات الاقتصادية المتزايدة نتيجة لأسباب داخلية وخارجية، والتى دفعت العديد من الدول للتهدئة كى تستطيع التركيز على أوضاعها الاقتصادية.
على سبيل المثال لا يمكن فهم التغيرات فى توجهات السياسة الخارجية التركية دون التعرف على أوضاعهاالاقتصادية الداخلية، حيث دخلت الليرة التركية فى حالة من الانهيار السريع، وهبطت خلال هذا العام بنسبة أربعين بالمائة مقارنة بالدولار الامريكى، وارتفعت نسبة التضخم لتصل الى عشرين بالمائة، وانخفضت معدلات تأييد الرئيس التركى اردوغان بشكل كبير، وفقد تأييد قطاع كبير من الطبقة الوسطى، التى كانت تمثل القاعدة الشعبية له ولحزب العدالة والتنمية، وبدأ أبناء هذه الطبقة فى تخزين البضائع والادوية خوفا من شحها او زيادة سعرها. و بدأ فرض حصص على شراء سلع غذائية معينة، كما بدأت تظهر طوابير طويلة أمام محطات الوقود فى عدد من المدن التركية. وبالتالى أصبح الرئيس التركى امام خطر حقيقى فى الانتخابات القادمة عام ٢٠٢٣.
ومع إصراره على تبنى سياسات اقتصادية تقوم على الحفاظ على سعر فائدة منخفض، مما أسهم فى انخفاض قيمة الليرة التركية، لم يجد أردوغان أمامه الا العمل على التهدئة مع دول الإقليم من أجل جذب استثماراتها لبلاده، وبالتالى تحسين الأوضاع الاقتصادية، وزيادة فرصه فى الانتخابات القادمة.
باختصار منطقة الشرق الأوسط تشهد قدرا من التحول نحو تبنى الواقعية السياسية نتيجة للعديد من المتغيرات الدولية والإقليمية والداخلية، ونأمل أن يكون لهذا التحول تأثيرات إيجابية على الاستقرار والتنمية.
نقلا عن الأهرام