الهند والعرب – الحائط العربي
الهند والعرب

الهند والعرب



أمضيت سنوات بين أبناء الأمة الهندية دبلوماسياً في السفارة المصرية في نيودلهي، وأزعم أن السنوات الأربع التي قضيتها هناك أكسبتني من التجارب وأعطتني من الخبرة وفتحت أمامي آفاقاً تزيد على ما يمكن أن يحدث خلال 40 سنة في مجال آخر، فالهند دولة متميزة تعبر عن أمة ضخمة تُعد بشكل أو بآخر امتداداً للجوار العربي، ولذلك ارتبطت الأمتان العربية والهندية بروابط وثيقة وصلات قوية منذ آلاف السنين، وقد ترك المغول على أرضها بصمات تشبه تلك التي تركوها في شرق العالم العربي، سواء في الطرز المعمارية أو الحدائق الأثرية، فالهند بحق هي متحف الزمان والمكان، ولقد عبر المفكر العربي البيروني عن ذلك بقوله، إن “فيها كل الفضائل والرذائل”، ولكنها تبقى في النهاية محصلة لروح آسيا، تلك القارة العجوز التي احتضنت الثقافات والحضارات والديانات عبر التاريخ. ولعل من الأمور المعروفة أن الفلسفة الهندية الكلاسيكية وصلت إلى الاعتراف بأن الخير الحقيقي والحق المطلق هو التحرر من متطلبات الحياة في هذا العالم، وقرر قدامى فلاسفة الهند أن ذلك هو التلخيص الموجز لمعظم ملامح الفلسفة الهندوسية والبوذية ويتبع التعاليم الروحية، ويظل على هذا المنهج طوال حياته حتى يصل لعالم “البراهما” ولا يعود منه مرة أخرى، ولا نريد أن نغوص هنا في ملفات تتناول الفلسفة الهندية بآراء متباينة. ولعلي أزعم أن الهند تمثل الحدود الفاصلة بين العرب في غرب آسيا والآسيويين في أقصى الشرق، لذلك فإننا كلما اتجهنا في أواسط آسيا نحو الشرق الأقصى، فإننا نشعر نسبياً بالتباعد عن الأمة ذات الفهم المشترك والمزاج المتقارب والوعي المتبادل الذي نجده بين العرب والهنود، فالتوغل شرقاً يصل بنا إلى الصين واليابان وأمم آسيوية أخرى لها ثقلها ووزنها، إلا أن تركيبتها الفكرية تختلف إلى حد ما عما نحن عليه، وبذلك نكتشف أن درجة الانسجام التي تحكم علاقة العرب بالجوار الهندي تبدو أعمق بكثير من تلك التي تربطهم بالأمم في شرقها، ولذلك عكفنا دائماً على تسمية المناطق الواقعة بين الدولتين الكبيرتين الهند والصين باسم الهند الصينية، وذلك تمييزاً لها عن شعوب أخرى تزداد فيها تأثيرات كل من الهند والصين حسب قرب كل منها من الدولة المحورية سواء في جنوب آسيا أو شرقها. والذين عاشوا في الهند يدركون أن التقسيم الطبقي مقبول هناك ومعترف به، لذلك لم تتمكن الشيوعية من غزو شبه القارة الهندية باستثناء تجربة ولاية كيرلا، على الرغم من مظاهر الحياة الفقيرة في معظم أرجاء الدولة، ذلك لأن الكل يؤمن بتناسخ الأرواح، وأن هناك حياة ثانية بعد الموت يعوض فيها الفرد جزءاً من استحقاقاته الضائعة في الحياة الأولى، لذلك فإن علاقة الهندي بالأجنبي تقوم على التوقير والاحترام، بل وينظر إليه باعتباره مخلوقاً أرقى، وتلك هي السجية الهندية التي لا ينازعها فيه أحد، فالهنود مقبِلون على الأجانب مندمجون معهم. كما أن مظاهر الحياة وسلوكيات الناس تؤكد أن العرب والهنود جاءوا من مخزون واحد وأن درجة التشابه بينهم عالية، لذلك فإنني أستأذن القارئ في طرح الملاحظات الآتية:

أولاً: عندما اختار لي الدكتور بطرس بطرس غالي العمل في البعثة المصرية في الهند بعد خدمتي في العاصمة البريطانية لندن، قال لي يومها “إن رسالتك في الدكتوراة كانت عن الأقليات في الشرق الأوسط مع التركيز على أقباط مصر، والآن حان الوقت لتشهد مباشرةً تآلف الأقليات في دولة كبرى مثل الهند”. وأضاف “إنك سوف ترى التطبيق العملي لما درسته نظرياً”، ولم أكن سعيداً في البداية بنقلي إلى الهند لأننا (للأسف) نفضل الدول الأوروبية الكبرى وواشنطن ونيويورك وطوكيو ولا نعطي الهند قدرها إلا في العقود الأخيرة عندما كان محمد حسن الزيات وعمرو موسى ونبيل العربي سفراء لمصر هناك. ولفت نظري كثيراً حالة الرضى النفسي التي يتمتع بها الهندي تجاه وضعه حتى لو كان بائساً والإحساس بالشراكة الكاملة مع الغير مع احترام السلم الطبقي الموروث. وأدهشني هناك أن المسلمين يشكلون ما يزيد على 12 في المئة من عدد السكان، وآمنت منذ ذلك الحين بأن تجربة التعايش المشترك هي الكفيلة بصنع المستقبل وصياغة أسباب الاستقرار فيه.
ثانياً: إن الذي يطوف في مدن الهند المختلفة سيجد أن معظم آثارها الباقية تعود إلى العصر المغولي والإسلامي، عندما سيطر السلاطين القادمون من أواسط آسيا على مقاليد الحكم في الولايات الهندية، وتركوا آثارهم الباقية في الحدائق التاريخية والمساجد الرائعة والمباني الضخمة، لذلك فإن الهنود يشعرون دائماً أن المغول المسلمين خطفوا الهوية الهندية حتى أصبحت جزءاً من تاريخهم قبل أن تكون آثاراً تنتسب إلى الحضارة الهندية القديمة.

 ثالثاً: لقد ذاق الهنود مرارة الصراع الديني والحروب الطائفية عشية الاستقلال عن بريطانيا، ودفع ذلك الشعب الصبور فاتورة غالية انتهت بتقسيمه بين الهند وباكستان (شرقها وغربها)، على الرغم من جهود المهاتما غاندي لإنهاء مشاعر التعصب وتصفية الروح الطائفية مع أنه دفع حياته ثمناً لذلك، وتم التقسيم وتمزقت شبه القارة الهندية إلى دول ثلاث حالية هي الهند وباكستان وبنغلاديش. ويربط الهنود دائماً بين العروبة والإسلام، ويرون أن النظرة العربية إليهم تتلون دائماً بالانتماء الإسلامي لمعظم العرب، وهو ما يؤثر على العلاقات بين الأمتين العربية والهندية أحياناً.

رابعاً: لقد شاعت فلسفة المهاتما غاندي وتلاميذه بعد اغتياله، وساد لديهم إحساس عام بضرورة إعمال المقاومة السلبية ضد الأعداء والخصوم، واتباع سياسة اللاعنف والمضي وراء مفهوم التعايش السلمي واحترام الآخر. وحققت الهند إنجازات باهرة في هذا الصدد حتى أصبحت دولة صناعية كبرى كما أنها دولة نووية ولها دور في مجالات أبحاث الفضاء، لذلك تبوأت موقعاً متميزاً منذ تأسيس حركة عدم الانحياز وظل دورها تصاعدياً حتى اليوم.
خامساً: لا يجب أن ننسى أن عشرات ملايين الهنود يعملون في دول الخليج العربي وبعض دول المشرق الأخرى، لأن الهندي باحث عن الرزق، مهاجر من أجل لقمة العيش، لذلك استوطنت جاليات هندية كثيرة القارة الأفريقية شرقها وغربها، بل إن للمهاتما غاندي إسهامات تاريخية مشهودة في مرحلته الأفريقية عندما كان محامياً في جنوب أفريقيا.

سادساً: لايجب أن نغفل تأثير ظهور دولة باكستان على العلاقات الهندية – العربية، إذ نجحت الدبلوماسية الباكستانية في إثارة المشاعر الدينية لدى العرب وإذكاء روح الإسلام على حساب العلاقات العربية – الهندية في كثير من الأحيان. ويكفي أن نتذكر أن الهند التي تضم أكثر من 120 مليون مسلم لم تتمكن من دخول منظمة التعاون الإسلامي مجاملةً لباكستان، وربما رغبة في الحفاظ على علاقات وثيقة معها، خصوصاً وأن العلاقات الباكستانية العربية امتدت إلى نواح أخرى كان بعضها اقتصادياً والآخر كان عسكرياً والثالث كان استراتيجياً.

سابعاً: لا بُد أن نعترف أن الهند كانت سنداً للشعب الفلسطيني ونضاله، على الرغم من وجود جالية يهودية نشطة تتركز في مومباي وحولها، إلا أن الهند استطاعت أن تحافظ على درجة لا بأس بها من التوازن في العلاقات بين العرب وإسرائيل، ربما حفاظاً على جالياتها في دول الخليج، فضلاً عن رغبتها في المزايدة على باكستان في ما يتصل بالمواقف الداعمة للقضية الفلسطينية.
هذا طواف سريع لإيضاح وشائج الصلات بين العرب والهنود في العقود الأخيرة، ونحن لا ننسى تحية أمير الشعراء للمهاتما غاندي وهو يمر بقناة السويس في طريقه إلى بريطانيا لحضور مباحثات المائدة المستديرة في لندن، التي كانت تمهيداً للتقسيم الذي تم في “اتفاقية سملا”، حيث قال أحمد شوقي: “سلام النيل يا غاندي … وهذا الزهر من عندي”.

نقلا عن اندبندنت عربية