الهدنة الحائرة «1 ــ 2» – الحائط العربي
الهدنة الحائرة «1 ــ 2»

الهدنة الحائرة «1 ــ 2»



طال الانتظار للهدنة الثانية فى الحرب الضارية التى تشنها إسرائيل على غزة لعلها -أى الهدنة- تخفف من الويلات التى يتعرض لها أهل غزة ولو مؤقتًا، وتضاربت التنبؤات بشأن إمكانية التوصل لها من عدمه، وتوقيتها إن حدثت، وكان هذا منطقيًا لأن أحدًا من المحللين الذين طرحوا هذه التنبؤات لم يكن على علم كامل أو حتى كاف بتفاصيل ما يجرى، بل إنه حتى من يُفترض أنه مطلع على كل التفاصيل كالرئيس الأمريكى أخفق فى تنبئه بيوم محدد تُنجز فيه الهدنة، ويعكس هذا مدى تعقد الموقف فى المواجهة الراهنة بين إسرائيل والفصائل المقاومة فى غزة بقيادة حماس، فما سر هذا التعقد وأبعاده؟ لنبدأ القصة من أولها، فالحديث عن هدنة أو وقف إطلاق نار فى صراع ما لا يبدأ إلا بعد أن تدرك أطرافه أن تحقيق أهدافها بالقوة لن يتحقق، أو على الأقل أنه صعب المنال بالغ التكلفة، وفى حالتنا وجهت المقاومة فى غزة لإسرائيل ضربة قاسية فى ٧ أكتوبر الماضى ردت عليها إسرائيل على النحو الوحشى الهمجى الذى تابعه العالم بأسره، وكان التصور لدى البعض إن لم يكن الكثيرين أن إسرائيل ستفرغ من مهمتها سريعًا بحكم اختلال القوة بين إسرائيل وتلك الفصائل، وفات هؤلاء أن خبرة التاريخ قاطعة فى أن مقاومة الشعوب لمحتليها لا تُهزم وإن كانت تكلفتها باهظة، وجاءت المقاومة فى غزة لتؤكد هذه الخبرة وتسطر فصلًا جديدًا فى تجارب التحرر الوطنى، وهو فصل بدأت كتابته منذ عقود، لكنه وصل ذروته عندما أجبرت المقاومة المحتل الإسرائيلى على الانسحاب من غزة فى ٢٠٠٥، وأخفقت جميع أعمال العدوان الإسرائيلية عقب هذا الانسحاب وحتى الآن فى أن تضع نهاية لهذه المقاومة، أو تجتثها بالمصطلحات الإسرائيلية لما بعد ٧ أكتوبر، وعندما بدا واضحًا فى الأسابيع الأولى أن المقاومة صامدة فى وجه القوة الإسرائيلية الغاشمة المجنونة المدعومة أمريكيًا وبريطانيًا على الأقل بجميع أنواع الدعم بما فيها التدخل المباشر سمعت بأذنى من بعض الأصوات الداعمة للمقاومة من يعرب عن إعجابه وتقديره لبطولاتها ولكنه يتساءل: إلى متى؟ وأجابت المقاومة بنفسها على هذا التساؤل اتساقًا مع خبرة التاريخ وحركته بأنه لا توقف حتى لحظة التحرير، حتى وإن تعرض النضال التحررى لنكسات مؤقتة من حين لآخر، أو اضطرت المقاومة أحيانًا لتقديم تنازلات تكتيكية سرعان ما يجرفها تيار التاريخ بعيدًا لتبقى الحقيقة الوحيدة الجديرة بالبقاء وهى التحرر الوطنى.

والمهم فى سياق موضوع هذه المقالة أن الوجه الآخر لصمود المقاومة كان يعنى عجز إسرائيل عن تحقيق هدفيها الاستراتيجيين الرئيسيين وهما تحرير أسراها العسكريين والمدنيين، واجتثاث حماس كما تحلم إسرائيل، كما أن المقاومة الفلسطينية ليست فى وارد هزيمة الجيش الإسرائيلى المتفوق بما لا يُقارن كمًا وكيفًا، وإن استطاعت من خلال الإيمان بقضيتها وحُسْن الاستعداد وأسلوب الحروب غير المتماثلة (أى حروب العصابات فى مواجهة الجيوش النظامية) أن تكبده خسائر موجعة، ويخلق هذا الموقف ـ أى عدم قدرة طرفى صراع ما على تحقيق أهدافهما بالقوة ـ البيئة المناسبة للبدء فى محاولات التهدئة و/أو التسوية، وبالفعل تم التوصل فى نوفمبر الماضى للهدنة الأولى بالاتفاق على وقف مؤقت للقتال والإفراج عن ٥٠ رهينة محتجزة فى غزة مقابل الإفراج عن ١٥٠ فلسطينيًا، ودخول المساعدات الإنسانية بما فى ذلك الوقود لقطاع غزة، وكان التوصل لهذه الهدنة دليلًا أكيدًا على عجز إسرائيل عن تحقيق أهدافها بالقوة، ولعل هذا يفسر تذرعها بعملية عسكرية فى القدس لإعلان نقض حماس تعهداتها واستئناف القتال، وهو ما يعكس المعضلة التى تواجهها قوى الاحتلال عادة بين العجز عن الحسم العسكرى واستمرار الأمل فى أن مزيدًا من الإفراط فى استخدام القوة يمكن أن يحقق هذا الحسم، وهكذا تواصل القتال واستمر نموذجه، بمعنى استمرار إسرائيل فى توظيف القوة المفرطة على نحوٍ همجى لا يتحسب لأدنى الاعتبارات الإنسانية ، واستمرار صمود المقاومة وقدرتها على إلحاق خسائر مؤلمة بالقوات الإسرائيلية رغم كل القتل والتدمير، ناهيك بتداعيات هذه الخسائر على الداخل الإسرائيلى سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، فضلًا عن الخسارة الظاهرة والمتزايدة لدعم دوائر فى الرأى العام العالمى كانت معروفة تقليديًا بتأييدها إسرائيل، وأبرز الأمثلة هنا ما حدث ويحدث من تحولات فى الرأى العام الأمريكى، وبالتالى كان منطقيًا أن يتم السعى من الجميع دون استثناء لهدنة ثانية، لكن جهود التوصل لها تعثرت، وأحاول تقديم تفسير لهذا التعثر.

والمسألة ببساطة تبدو تعارضًا بين ضرورة المفاوضات لطرفيها والتناقض الجوهرى بين أهدافهما، فإسرائيل فى مأزق حقيقى قيادة ومواطنين بسبب العجز عن تحقيق الأهداف المعلنة واستمرار نزيف الخسائر العسكرية والسياسية والاقتصادية، ويطيب لى هنا دائمًا أن أُقَيم الوضع الإسرائيلى من خلال النظر فى وجه نيتانياهو وشركائه فى القيادتين العسكرية والسياسية، فلم أر ابتسامة صافية بحمد الله على هذه الوجوه منذ ٧ أكتوبر وحتى الآن، ومع ذلك فإسرائيل تصر على أن تحقق لها الهدنة مطالب لم تستطع تحقيقها فى ساحة القتال، وهذا لا يستقيم سياسيًا، كذلك فإن مطالب حماس بالوقف الدائم لإطلاق النار والانسحاب التام من قطاع غزة لا تعنى التصديق على الهزيمة النكراء لإسرائيل فى ٧ أكتوبر فحسب، وإنما السقوط المدوى لنيتانياهو وحكومته، وفى انتظار ما يسفر عنه استمرار القتال، والذى يمكن أن ينطوى على أحداث تغير من المسار بعضها متوقع وبعضها الآخر قد يكون مفاجئًا، يبدو أن الخروج من الانسداد الحالى فى المدى القصير هو تكرار تجربة الهدنة الأولى على نطاق أوسع زمنيًا وموضوعيًا بحيث يحقق كل طرف بعضًا من أهدافه دون أن يفقد كل أوراقه، وأواصل النقاش لهذا الموضوع ومتغيراته الحاكمة فى الأسبوع القادم بإذن الله.

نقلا عن الأهرام