عندما كان الواحد منا يكتب عن الأفاعيل التي ترتكبها إيران بالدول العربية بالمشرق والخليج، كنا نحرص على ذكر الميليشيات التابعة لها، باعتبارها هي القائمة بالهجمات. وهذه دقة لا حاجة إليها أو أنه ما عادت إليها حاجة. فالمسيّرات والصواريخ التي هاجمت أبوظبي (وعلى فرض أنها انطلقت من صنعاء)؛ فإنها قطعت على الأقلّ أكثر من ألف وخمسمائة كيلومتر. وهي تحتاج إلى تكنولوجيا متقدمة لا يستطيعها الحوثيون، ولا بد أن الإيرانيين هم المطلقون، أو في الحدّ الأدنى هم الصانعون والمشغِّلون في الحالتين.
وحتى تكتمل عبثية المشهد، هناك خبران، الأول دعوة وزارة الخارجية الإيرانية قبل الهجوم وبعده إلى التهدئة وتجنُّب النزاعات الإقليمية (!). والخبر الآخر، أنّ إيران تُجري مناوراتٍ عسكرية مع روسيا والصين في الأيام المقبلة، فلماذا تُكافأ إيران أو على ماذا؟ ولماذا يُكافأ حوثيو الإيرانيين من جانب الولايات المتحدة بأن يكونَ أولئك المخربون لليمن والمفترسون لشعبها هم المستفيدين وحدهم من قرار بايدن الأول في مطلع رئاسته بإخراجهم من لائحة التنظيمات الإرهابية التي وضعهم فيها الرئيس ترمب! بعد القرار العجيب الغريب وجد له الأميركيون تعليلاً أغرب هو أنه كان لتسهيل استمرار وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي يسيطر عليها أولئك الإرهابيون. وقبل أيام قليلة عرضت قوات العمالقة التي تتقدم في مديرية حريب من محافظة مأرب، صناديق المساعدات وقد ملأتها الميليشيا بعد أن نهبت محتوياتها بالألغام التي نشرت ملايين منها في سائر أنحاء اليمن. وإذا كان الحوثيون لا يستطيعون إنتاج الصواريخ والمسيَّرات فهل يستطيعون إنتاج ملايين الألغام والمتفجرات، ومن أين لهم مناجم التعدين وصناعاتها؟!
لأول مرة، ورداً على الهجوم على أبوظبي، كان هناك استنكارٌ أميركي واضح لهذا العمل الإرهابي، وإظهار للإرادة الأميركية في مساعدة الدولة في الحفاظ على أمنها واستقرارها. لكن لماذا يكون علينا أن نصدّق الوعد الأميركي هذه المرة وفي مواجهة الهجوم الأول، وما ساعدت القوة الأعظم حليفتها المملكة العربية السعودية وقد تلقّت ولا تزال آلاف الهجمات وبالمسيّرات والصواريخ خلال سنواتٍ وسنوات، وبالطبع ليس من محازبي «أنصار الشيطان»، بل من إيران!
أحد المعلِّقين الأميركيين قال لقناة «الحرة» أو الـ«بي.بي.سي»، إنّ قرار بايدن بإخراج الحوثيين من قائمة التنظيمات الإرهابية ما كانت له علاقة بهم (!). ومع أنه ما ذكر السبب الحقيقي للقرار من وجهة نظره؛ فالمفهوم أنه كان يقصد أن علة القرار كان الانتقام من المملكة العربية السعودية. ولماذا نستنطق تورية وكناية القرار الأميركي. لقد تابعت كما تابع غيري وسائل الإعلام العالمية وبعض العربية في الأيام الثلاثة الماضية. فمن «الميادين» والـ«سي.إن.إن» و«الحرة» و«فرانس24» والـ«بي.بي.سي» وغيرها، قوبلت هجمة المتأيرنين على أبوظبي (على فرض أنهم هم الذين نفّذوها) باحتفاءٍ شديد، وتحليلات شديدة الهول عن قدراتهم القتالية والتسليحية المتقدمة، وذكروا على الهامش بعد ضرب منشآت البترول والمطار والضحايا الثلاث والمصابين الآخرين وكلهم مدنيون؛ إنما منذ اليوم التالي للهجوم ما عاد هناك ذكر إلا لمقاتلي «أنصار الله» (ومنهم الجنيد قائد قواتهم الجوية) والآخرين الذين قُتلوا في غارات التحالف على صنعاء، وعددهم الدقيق (بحسب تلك الوكالات الشديدة الأسى) 14 من السكان المساكين! ولا أعرف وطوال العام 2021 الفظيع على الشعب اليمني، أي إحصاءٍ لقتلى اللاجئين في مخيماتهم البائسة بمأرب بصواريخ أنصار الشيطان وهم يطاردون مليونين منهم فروا أربع أو خمس مرات ومن لم يمت بالصواريخ، مات أو تَشوَّهَ بالألغام.
وإلى هذا وذاك، ومنذ بدأ التقدم لتحرير مديريات محافظة شبوة قبل أقلّ من عشرين يوماً، لا نسمع شيئاً معتبراً عن انتكاسات أنصار الشيطان، وإذا ذكرت الـ«بي.بي.سي» أو «فرانس24» شيئاً، فسرعان ما تأتي بمعلّقين يدعون إلى السلام وإنهاء النزاع بالتفاوض (!)، لكأنما ما أوقف التحالف النار مرات عدة، ولا عرض خطِطاً للسلام مرات عدة؛ حتى عجز غريفيث عن كتمان يأسه وقال وهو يغادر منصبه مبعوثاً دولياً: هؤلاء لا يريدون السلام، ويريدون الحلَّ العسكري، وإذا حصلوا على مأرب فإنّ الحرب ستستمر للأبد.
إنّ هذا السرد كلَّه ليس المقصود به التظلم أو إظهار التحيز لإيران ومراعاة خاطرها، والأمران حاصلان. بيد أنّ الحواصل الأُخرى أكبر بكثير، وفي الطليعة الإهلاك للشعب اليمني، إنما إلى جانب ذلك: التهديد المستمر للملاحة في البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب وعُمان، وقبل أسبوعين خطف أنصار الشيطان سفينة مساعدات طبية ترفع عَلَم الإمارات. ومن هذه الناحية، فإنّ الإيرانيين ما كانوا يحرصون دائماً على الاختفاء وراء الحوثيين، بل يُظهرون أحياناً القيام بذلك بأنفسهم لكي يجري التفاوُض معهم مباشرة فلا يحتار الوسطاء. أفلم يكن الأميركيون والأساطيل وحاملات الطائرات لعشرات الدول الغربية قادرين على حماية الملاحة التجارية، وألم يكونوا قادرين على منع تهريب السلاح الإيراني إلى أنصار الشيطان؟!
ليس المقصود كما سبق القول: التظلم من الأميركيين أو الروس أو الصينيين (وهم محسوبون باعتبارهم حلفاء لدول الخليج أيضاً وأيضاً)؛ بل الانتهاء من المعاذير التي تكاثرت حتى صارت مملة وممجوجة. من لا يريد منا السلام؟ نحن العرب الأكثر تضرراً من الحروب؛ لأنّ بلداننا الرائدة بالمنطقة ومن مصر إلى السعودية والإمارات، تقود منذ سنواتٍ وسنواتٍ تجارب تنمية وتقدم وعُمران عزَّت نظائرها في عالم اليوم. والذين يعمِّرون هم الأكثر حرصاً على الأمن والسلم. إنما ماذا نفعل إذا كان النظام الإيراني الذي اصطنع هذه الميليشيات في لبنان وسوريا والعراق واليمن يعمل من زمان على تدمير استقرارنا وعمراننا وحضارتنا وتقدمنا وإنسانية إنساننا!
إنّ هذه الانطلاقة الحضارية الكبرى ينبغي حمايتها. وهؤلاء المائة مليون عربي ينبغي استنقاذهم من الحروب المدمِّرة التي يشنُّها اللنظام الإيراني عليهم لأنهم عرب. نعم، حرية اليمن السعيد، هي حملة من أجل الإنقاذ والسلام في وجه الحرب والدمار الإيراني.
لقد دعت الإمارات مجلس الأمن إلى الاجتماع من أجل إدانة هذا العدوان. هو عدوانٌ على العرب جميعاً؛ لأنه عدوانٌ على الدولة النموذج لحضارة العرب الجديدة.
لقد قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: من حمل علينا السلاح فليس منا. وهؤلاء يحملون علينا السلاح منذ عقدين في كل مكان. فلا ينبغي التردد في القول: إنها حربٌ، بل حروبٌ إيرانية علينا نحن العرب، وإذا كان هناك في المجتمع الدولي من لا يزال يتحدث عن الحلول التفاوضية التي مارسها العرب طويلاً في اليمن بالذات، فلنقل لهم هذه المرة: لا كلام إلا بعد تحرير اليمن!
نقلا عن الشرق الأوسط