تحولات متتالية:
المسارات المحتملة للموقف التركي من حرب غزة

تحولات متتالية:

المسارات المحتملة للموقف التركي من حرب غزة



مع تصاعد حدة المواجهات المسلحة بين إسرائيل وحركة حماس، عقب العملية التي شنتها الأخيرة في 7 أكتوبر الجاري وأطلقت عليها اسم “طوفان الأقصى”، أبدت تركيا اهتماماً خاصاً بالانخراط في الجهود التي تبذل من أجل احتواء تلك المواجهات ووقف العنف والبحث عن سبل للوصول إلى تسوية للقضية الفلسطينية.

بيد أنه مع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، فضلاً عن حشد الولايات المتحدة الدعم الدولي لصالح إسرائيل؛ اتجهت أنقرة إلى تبني مواقف مغايرة، حيث وجه الرئيس رجب طيب أردوغان، في 28 أكتوبر الجاري، انتقادات لتلك العمليات، على نحو دفع إسرائيل إلى استدعاء دبلوماسييها من أنقرة في سياق عملية لمراجعة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين.

محددات رئيسية

تطورت السياسة التي تبنتها تركيا إزاء المواجهات العسكرية المستمرة بين إسرائيل وحركة حماس تدريجياً، على نحو يمكن تناوله في المحددات التالية:

1- استمرار قنوات التواصل مع حماس: كان لافتاً أنه في خضم تصاعد تلك المواجهات العسكرية، كانت تركيا حريصة على تأكيد استمرار قنوات التواصل مع حركة حماس، وعدم تبني مواقف تصعيدية تجاهها، خاصة بعد أن كشفت تقارير عديدة أن السلطات التركية قررت إبعاد رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية من أراضيها.

إذ نفى مركز مكافحة التضليل التابع لدائرة الاتصال في الرئاسة التركية “DMM” ما وصفه بأنه “ادعاءات تناولتها صحف عالمية وإسرائيلية بشأن مطالبة الرئيس رجب طيب أردوغان مسئولين في حركة حماس بمغادرة تركيا”، وأضاف في بيان على منصة “إكس”: “إن الادعاءات بأن الرئيس أردوغان أمر كبار مسئولين في حماس بمغادرة تركيا على الفور عارية من الصحة تماماً”.

كما حرصت تركيا على التواصل مع قادة “حماس”، حيث أجرى الرئيس أردوغان، في 21 أكتوبر الجاري، مباحثات مع رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية. والتقى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 24 أكتوبر الجاري، هنية ووفداً رفيعاً من قيادة الحركة، لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة.

2- توجيه تحذيرات من توسيع نطاق التصعيد: في سياق توجيهه انتقادات للعملية العسكرية الحالية، حذر الرئيس أردوغان أيضاً من أن “العملية التي تشنها إسرائيل تستفز دول المنطقة بدلاً من التراجع عن أخطائها في غزة”، في إشارة إلى أن الاستمرار في التصعيد العسكري داخل قطاع غزة قد يدفع المليشيات الموالية لإيران إلى الانخراط فيه، عبر توجيه ضربات لمواقع ومصالح إسرائيلية من أجل رفع كلفة العمليات العسكرية التي تقوم تل أبيب بتنفيذها في القطاع خلال المرحلة الحالية. كما دعا الرئيس أردوغان إسرائيل، في 28 أكتوبر الحالي، إلى وقف العملية فوراً، مضيفاً في تغريدة على منصة “إكس”: “يجب أن تخرج إسرائيل فوراً من حالة الجنون هذه وأن توقف هجماتها”.

3- تحشيد الشارع التركي ضد العملية: سعت السلطات التركية إلى تحشيد الشارع ضد العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل داخل قطاع غزة، وكان لافتاً في هذا السياق تنظيم الجمعيات والمنظمات المدنية العديد من التظاهرات الداعمة لغزة في بعض المحافظات التركية. كما نظم حزب “العدالة والتنمية” تظاهرة في 28 أكتوبر الجاري بحضور قيادات الحزب ورموزه لرفض تلك العملية.

4- وقف برامج التعاون في مجال الطاقة: كشفت بعض التقارير أن تركيا اتجهت إلى تعليق المشاريع التي كانت مقررة مع إسرائيل في مجال الطاقة، وبدا ذلك جلياً في إلغاء وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار زيارة كانت مقررة خلال الأيام المقبلة إلى تل أبيب، التي كانت تعول على تعزيز التعاون مع أنقرة في هذا المجال خلال المرحلة القادمة، خاصة في ظل تزايد الطلب العالمي على إمدادات الطاقة من المنطقة.

5- توظيف الأزمة لانتقاد المواقف الغربية: كان لافتاً أن أنقرة سعت إلى توظيف الأزمة التي نجمت عن الحرب الحالية من أجل توجيه انتقادات قوية للسياسة التي تتبناها الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في ظل الخلافات المتعددة العالقة مع بعض تلك القوى حول العديد من الملفات، على غرار الدعم الأمريكي للمليشيات الكردية في شمال سوريا، والتي تصنفها أنقرة كجماعات إرهابية، والضغوط الأمريكية على تركيا لتقليص مستوى التعاون العسكري مع روسيا.

ومن هنا، أشار وزير الخارجية هاكان فيدان، في 22 أكتوبر الجاري، إلى أن “أعمال العنف الإسرائيلية ضد الفلسطينيين جاءت بضوء أخضر من الغرب”، وقال أن “الدول الأوروبية تتعامل بازدواجية وتدعم كل ما تقوم به إسرائيل”.

خيارات محتملة

طرحت التطورات التي تشهدها الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزة العديد من التساؤلات التي تتعلق بطبيعة الموقف التركي وتحولاته منها. ويمكن القول إن الحرب الحالية تضع أنقرة أمام خيارات ثلاثة محتملة: يتمثل أولها، في وضع حد للتصعيد مع إسرائيل، خاصة مع الإجراءات التي بدأت تتخذها الأخيرة على خلفية الانتقادات التي وجهها المسئولون الأتراك للعملية العسكرية في غزة. إلا أن هذا السيناريو قد يواجه برد فعل رافض من جانب الشارع الذي تم تحشيده لرفض تلك العملية والدعوة لوقفها.

وينصرف ثانيها، إلى الحفاظ على قنوات التواصل مع حركة حماس، وهو ما قد يفرض، في مرحلة لاحقة، تداعيات سلبية على العلاقات بين تركيا وكل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، حيث سيؤدي إلى تصاعد حدة التوتر مع الأولى، وتوسيع نطاق الخلافات العالقة مع الثانية.

ويتعلق ثالثها، بالانخراط في جهود إقليمية ودولية من أجل الوصول إلى وقف لإطلاق النار. ويبدو أن هذا الخيار هو الأقرب، خاصة في ضوء تزايد قلق تركيا إزاء المعطيات التي يمكن أن تنتج عن إطالة أمد الحرب واتساع نطاقها، وهو ما قد ينعكس سلباً ليس فقط على العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، وإنما على المصالح والتحركات التركية على المستويين الإقليمي والدولي.

ختاماً، يمكن القول إن التحول التركي نحو مزيد من التشدد تجاه التطورات الميدانية التي تجري داخل قطاع غزة يظل محكوماً بالمدى الذي سوف تصل إليه العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل حالياً والتداعيات التي سوف تفرضها في النهاية، خاصة أن تركيا، وقوى إقليمية ودولية عديدة، ترى أن المسارات المحتملة التي سوف تنتهي إليها تلك الحرب سوف يكون لها تأثير مباشر على أنماط التفاعلات والتحالفات التي سوف تشهدها منطقة الشرق الأوسط خلال المرحلة القادمة.