عندما نشر كل من البروفيسور جيرى روزاني بجامعة ساوث كارولينا، والبروفيسور جيري كريد بكلية شارلستون، في عام 1997، دراسة عن عناصر الاستمرارية في سياسة أمريكا الخارجية، فإنهما ركزا على التساؤل عن الكيفية التي سيعمل بها النظام السياسي الأمريكي في غياب الشيوعية، من بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1989.
وجاء تساؤلهما في تيار مناقشات أمريكية لوحظ على المشاركين فيها الاختلاف في تحديد مسارات السياسة الخارجية، وعدم وجود رؤية واحدة حول العدو الجديد، الذي سيكون بديلاً عن الاتحاد السوفييتي السابق، كمحور تدور من حوله السياسة في الداخل والخارج.
وكانت هذه المناقشات قد شغلت بالبحث عن عدو بديل، لدرجة أن من بين المقترحات التي ظهرت قد ذكرت الصين عدواً بديلاً، وكذلك ما روجت له مراكز البحوث المتصلة بالقوى اليهودية الأمريكية، عن الإسلام عدواً بديلاً. لكن هذه المقترحات افتقدت للعناصر الأساسية التي تكون صورة العدو البديل، وأولها القدرة على تهديد الأمن القومي للولايات المتحدة.
وربما كان المأزق الذي وجدت فيه مؤسسات السياسة الخارجية نفسها، يعود إلى فقدانه ما كانت تملكه هذه المؤسسات من مخزون خبرات تراكمت في شخصيات ومؤسسات، على معرفة دقيقة بالعدو السوفييتي، لدرجة اليقين في تحديد ردود أفعاله تجاه أية قرارات أمريكية بشأنه. إضافة إلى معرفتها بالكثير من دوافع ومحركات السياسات السوفييتية تجاه أمريكا وحلفائها، وتجاه مناطق العالم على اختلافها.
لكن الوضع اختلف بعد انتهاء الحرب الباردة – وفقدان مخزون الخبرات المتراكمة – بحيث صار خبراء الاستراتيجية في الولايات المتحدة، يفتقدون اليقين، في نتائج مواجهاتهم وتعاملاتهم، مع أعداء، أو خصوم، أو منافسين على مستوى العالم.
بل إن واضعي الاستراتيجيات الجدد، لم تكن لديهم سعة من الوقت لدراسة ثقافات الشعوب التي تدور في أرضهم الصراعات الجديدة، وهو ما أشار إليه البروفيسور مايكل إليوت في محاضرة أمام جامعة كولورادو عام 2008، من أن العالم تغير من حيث اللغة والمفاهيم التي كان لها وقعها في النفوس قبل 50 عاماً، لكن لم يعد لها هذا الأثر اليوم. من ثم كان البعض من هؤلاء يرسم استراتيجيات لتطبق في دول، لا يعرفون هم حقيقة ثقافات شعوبها، وتقاليدهم.
وقد حاول كل من الرئيس بوش الأب، وبيل كلينتون إيجاد مبدأ جديد للسياسة الخارجية يحل محل استراتيجية الاحتواء، التي كانت محور إدارة الصراع مع العدو السوفييتي، لكنهما فشلا في إيجاده، يومها أعلن جيمس ستينبرج مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية في إدارة كلينتون أن العالم الذي نواجهه اليوم شديد التعقيد؛ بحيث لا تصلح نظرية واحدة لتشخيصه.
وأكمل هذا التصور البروفيسور فينسنت أوجر أستاذ علم الحكومات بكلية هاملتون بقوله: إن الحقائق المتغيرة في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، تقيّد بشكل حاد من قدرة صنّاع السياسة الأمريكيين، على بناء بديل مقنع لنظرية الاحتواء التي قامت على مواجهة الاتحاد السوفييتي، وإن هذه الورطة ستظل تواجههم خلال المستقبل المنظور.
ولهذا كانت السياسات التي اتخذت بعد ذلك في مناطق العالم تتسم بالتناقضات مثلما كان الحال في العراق وسوريا، وبالتأرجح كما حدث في العلاقات مع كوريا الشمالية، وإيران؛ بل ومع الحلفاء في أوروبا.
ومن الواضح أن الاستراتيجيات الأمريكية، لا تزال تلتزم بمفاهيم الصراع مع القوى الدولية المنافسة، بما يثير حالات من عدم الاستقرار، والتوترات في كل مكان.
ثم إن عدم وجود قوة كبرى لديها القدرة على الإمساك بزمام الأحداث، راجع إلى حد كبير إلى التمسك باستراتيجيات قديمة لم تعد تتناسب مع متغيرات متسارعة.
ومن الواضح أن مفهوم «الصراع» لا يزال بحكم هذه الاستراتيجيات، مع أن العالم بدأ يشهد منذ انتهاء الحرب الباردة، ظهور تحديات للسلامة وللأمن القومى للجميع، مما يتطلب التشارك في مواجهتها، وتدريجياً بدأت تضاف إليها تحديات غير مسبوقة، ولا سبيل أمام أية دولة بمفردها على مواجهتها. ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، انتشار الإرهاب العابر للحدود، وتغيير المناخ، والجريمة المنظمة، وغيرها.
ولعل المثل الصارخ أمام الجميع، هو ما تتعرض له دول العالم، كبيرها وصغيرها دون استثناء من أضرار وخسائر جسيمة بسبب جائحة كورونا، والتي اتفقت العديد من مراكز الدراسات، والكثير منها في الولايات المتحدة، على ضرورة التعاون والتكامل والتشارك بين الجميع في مواجهتها، وليس بإشعال الصراعات.
تقلا عن الخليج