قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة أذربيجان، في 25 سبتمبر، وجاءت الزيارة بعد أسبوع واحد فقط من المواجهات التي شهدها إقليم ناغورنو كارباخ بين القوات الانفصالية المدعومة من أرمينيا والقوات الأذرية، وانتهت بنجاحات باكو في محاصرة الأرمن، وتأمين السيطرة على كامل الإقليم. وشهدت الزيارة -التي لم تكن الأولى من نوعها- مناقشة ملفات التعاون بين البلدين، والمشروعات المشتركة في مجال الطاقة، بيد أن زيارة أردوغان هذه المرة توجه رسائل إلى أرمينيا والقوى الداعمة لها، بأن أنقرة لن تغيّر من نهجها باتجاه تقديم كامل الدعم لباكو.

سياقات متزامنة

تزامنت زيارة الرئيس التركي إلى أذربيجان مع عدد من التطورات، يمكن بيانها على النحو التالي:

1- صعود مستويات التوتر بين باكو والأرمن: شهدت الشهور الأخيرة صعوداً في مستويات التوتر بين باكو والأرمن الانفصاليين، ووصلت إلى الذروة منذ مطلع سبتمبر الجاري بعد اتهام باكو للانفصاليين باستهداف نقاط حدودية، وهو ما دفع الأولى لشنّ عملية عسكرية في 19 سبتمبر الجاري، استمرت يوماً واحداً وانتهت بنزع سلاح الانفصاليين الأرمن، وانسحابهم من إقليم كارباخ. وحظيت هذه العملية بدعم كبير من جانب أنقرة، فبينما أكد وزير الدفاع التركي يشار غولمر، في 19 سبتمبر الجاري، إلى دعم بلاده لباكو في عمليتها العسكرية ضد الانفصاليين في كارباخ؛ فقد وصف أردوغان عشية لقائه نظيره الأذري نتائج العملية “بالانتصار الكبير”، وأشار إلى أن انتصار أذربيجان في منطقة كاراباخ “يفتح نافذة لفرصة التطبيع في المنطقة”.

2- استبعاد أنقرة من ممر بايدن (الهند، الشرق الأوسط، أوروبا): تزامنت زيارة أردوغان إلى أذربيجان مع استبعاد أنقرة من مشروع ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا الذي طرحه الرئيس الأمريكي في قمة العشرين التي استضافتها الهند خلال سبتمبر الجاري. وأثار المشروع قلق أردوغان، الذي كان قد طرح عشية حملته الانتخابية في مايو الماضي مشروع “قرن تركيا”، والذي يستهدف تحويل البلاد إلى مركز تجاري عالمي. وهنا، يمكن حرص الرئيس التركي خلال لقائه نظيره الأذري على أهمية دعم مشروع ممر “زنغزور” في القوقاز الجنوبي، والذي يربط آسيا الوسطى بالخليج وصولاً إلى أوروبا عبر تركيا. كما تعي تركيا أن تسريع وتيرة تنفيذ هذا الممر في التوقيت الحالي، يزيد روابط تركيا مع القوقاز وبحر قزوين، فضلاً عن أن حركة الشحن التي ستنشط عبر الممر توفر فرص عمل للأتراك في قطاع الخدمات اللوجستية.

وقد طرحت تركيا إنشاء عدة ممرات جيوسياسية لنقل موارد الطاقة والبضائع أيضاً، منها “الممر الأوسط” العابر لبحر قزوين، وهو يبدأ من تركيا ويمر بجورجيا وأذربيجان ليعبر بحر قزوين ويصل إلى الصين، وسيتكوَّن من سكك حديد وطرق تعبر من جورجيا، المتاخمة لتركيا، إلى أذربيجان، ومن ثم عبر بحر قزوين، وصولاً إلى الصين عبر كازاخستان أو تركمانستان. وهذا الممر حال إتمامه سيؤدي إلى إيقاف “الممر الشمالي” الذي تتحكم فيه روسيا وينقل البضائع من الصين وأوروبا عبر سيبيريا الروسية.

3- موازنة الحضور الغربي في أزمة الأرمن الانفصاليين في كارباخ: تزامنت زيارة أردوغان إلى أذربيجان مع توالي الانخراط الغربي على خط أزمة الأرمن الانفصاليين في كارباخ، فبينما زار وفد من الكونجرس الأمريكي بقيادة السيناتور الديمقراطي غاري بيترز أرمينيا خلال الفترة من 22 – 25 سبتمبر لبحث تأثير العمليات العسكرية الأخيرة التي قامت بها أذربيجان، على السكان الأرمن في كارباخ، ففي المقابل وجّه الرئيس الفرنسي، في 25 سبتمبر الجاري، انتقاداً للتحركات العسكرية الأذرية ضد الأرمن الانفصاليين في كارباخ، وأضاف أن باكو “تهدد” الحدود المشتركة و”وحدة أراضي” أرمينيا. ولذلك، يُنظر إلى زيارة أردوغان على أنها تمثل محاولة لإبداء الدعم والاهتمام والمساندة لحليفتها أذربيجان في مواجهة التهديدات المختلفة، وفي القلب منها الانتقادات لتحركاتها العسكرية في كارباخ.

4- تطور التعاون العسكري بين تركيا وأذربيجان: ترتبط زيارة أردوغان الأخيرة إلى أذربيجان في جانب منها بالتطور الحادث في مجال التعاون العسكري بين البلدين، وكشف عن ذلك زيارة رئيس الأركان التركي للعاصمة الأذرية باكو في 28 أغسطس الماضي، ناهيك عن إبداء البلدين حرصاً لافتاً خلال المرحلة المقبلة على تكثيف المناورات العسكرية المشتركة بينهما. وتجدر الإشارة إلى أن لقاء أردوغان-علييف الأخير تضمن بحث سبل تعزيز التعاون المشترك بين البلدين، والاستفادة من الصناعات الدفاعية التركية المتطورة، وبخاصة في قطاع المسيرات التي لعبت دوراً مهماً في حسم انتصارات الجيش الأذري في كارباخ.

اعتبارات متعددة

جاءت تلك الزيارة في ضوء عددٍ من الدوافع التي سعت أنقرة لتحقيقها، والتي يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:

1- تأكيد تركيا حضورها في آسيا الوسطى: يسعى الرئيس التركي من خلال لقائه السريع بنظيره الأذري بعد العملية العسكرية ضد الأرمن الانفصاليين، إلى التأكيد على أن بلاده قادرة على التأثير في التفاعلات القائمة بمنطقة آسيا الوسطى، من خلال دعم حلفائها، وبخاصة جهود أذربيجان لتحقيق سيادتها في كارباخ. ومن ثمّ فإن أردوغان ربما أراد عبر هذه الزيارة في التوقيت الحالي، التأكيد على أن آسيا الوسطى تقع ضمن منطقة النفوذ التركي، وأنه سيواصل دعم حلفائه عسكرياً وسياسياً، لضمان ترسيخ مكانة تركيا الإقليمية، وتعزيز الاستفادة من موارد آسيا الوسطى.

2- استمرار دعم تركيا لأذربيجان: سعت تركيا من تلك الزيارة إلى تأكيد دعمها لأذربيجان حليفتها في المنطقة. وتُعد الزيارة بمثابة رسالة إلى أذربيجان مفادها استمرار الدعم التركي، بما يعني قطع الطريق على روسيا أو القوى الغربية التي تسعى إلى استمالة أذربيجان، وبخاصة الولايات المتحدة التي تستضيف جولات حل نزاع كارباخ. لذا ثمّنت تركيا العملية العسكرية ضد الانفصاليين الأرمن، واعتبرها الرئيس أردوغان نصراً مستحقاً لأذربيجان.

3- تأمين مشاريع الطاقة: لا تنفصل زيارة أردوغان إلى أذربيجان عن رغبته في تأمين مشاريع الطاقة، إذ تعتمد تركيا على تلبية جانب من احتياجاتها النفطية من أذربيجان، خاصةً في ظل استمرار العقوبات الغربية على موسكو. كما تعتبر أنقرة العلاقة مع باكو حيوية لتمرير الممرات الجيوسياسية المتعلقة بنقل موارد الطاقة والبضائع أيضاً، منها “الممر الأوسط” العابر لبحر قزوين، والذي يتكون من خطوط سكك حديد، يمكن أن تساهم في نقل موارد الطاقة المستخرجة من دول بحر قزوين عبر تركيا إلى أوروبا.

4- دفع العلاقات الاقتصادية والتجارية: تمثل المبادلات التجارية أحد المتغيرات المهمة في زيارة أردوغان إلى أذربيجان، ففي ظل تراجع مؤشرات الاقتصاد التركي، واستمرار القضايا الخلافية بين أنقرة والقوى الغربية التي سحبت جانباً من استثماراتها من تركيا، خاصة بعد انهيار سعر الليرة؛ تمثل أذربيجان واجهة مهمة للاقتصاد التركي، حيث تعول تركيا على أسواق أذربيجان لتصريف منتجاتها بالإضافة إلى جذب مزيد من استثمارات باكو.

5- إضعاف نفوذ الخصوم في آسيا الوسطى: تقدم تركيا كافة أوجه الدعم العسكري والسياسي للرئيس علييف جنباً إلى جنب مع تأكيد قدرتها ورغبتها في الدفاع عن أذربيجان وحقوقها التاريخية والقانونية سواء في كارباخ أو الإقليم. بيد أن هذه التحركات ترتبط في جانب واسع منها بمحاولة إضعاف نفوذ خصومها في منطقة آسيا الوسطى، وبخاصة موسكو وطهران. ويبذل الأتراك منذ وقت جهودهم لضمان سيادة أذربيجان في المنطقة على حساب أرمينيا المدعومة من موسكو وطهران.

صحيح أن أرمينيا اتهمت قوات حفظ السلام الروسية في كارباخ بالتواطؤ ضد الانفصاليين الأرمن في كارباخ، واتجهت مؤخراً نحو تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة، وبدا ذلك في إجراء مناورات مشتركة؛ إلا أن تركيا تخشى من تمدد النفوذ الإيراني والروسي في آسيا الوسطى، خاصة في ظل تباين أهدافهما مع المصالح والاعتبارات التركية. وفي هذا السياق، يمكن فهم زيارة أردوغان لأذربيجان بعد المواجهات العسكرية الأخيرة في كارباخ، إذ تعتبر أنقرة الانتصار الأذري فرصة لتحجيم نفوذ خصومها، وبخاصة إيران. وتشير بعض التقديرات إلى أن تركيا تعتقد أن تكريس سيطرة أذربيجان على الإقليم يعني في جانب منه إحكام الحصار على طهران، ولا سيما في الجانب الاقتصادي، إذ إن سيطرة باكو على كارباخ يعني قطع الطريق بين إيران وأرمينيا.

ختاماً، يمكن القول إن التحركات التركية تجاه أذربيجان بعد تحرير كارباخ، تُشير إلى محاولات أنقرة ترسيخ نفوذها ودورها في منطقة آسيا الوسطى، وذلك بالتنسيق مع حليفتها أذربيجان، وذلك بهدف مواجهة نفوذ خصومها الإقليميين. كما أن زيارة أردوغان لا تنفصل عن حرصه على تطوير ودعم العلاقات الثنائية بين أنقرة وباكو.