يستند إعلان الجزائر عن رفع أسعار الغاز المُوَرَّد إلى أوروبا إلى عوامل عديدة، منها ما يتعلق بالدوافع الاقتصادية الخاصة بمحاولة الاستفادة من فرصة ارتفاع أسعار الغاز والنفط في الأسواق الدولية، وما يختص بالأبعاد السياسية التي من شأنها إعادة رسم العلاقات بين الجزائر وشركائها في أوروبا، فضلاً عن تغيير بعض ملامح المشهد الإقليمي في المتوسط وجنوب أوروبا؛ خاصة في إطار السعى الأوروبي إلى التقليل التدريجي من الاعتماد على الغاز الروسي.
في ظل الارتفاع الكبير الذي طرأ على أسعار الغاز الطبيعي عالمياً، في أعقاب العقوبات الغربية على روسيا، بسبب الحرب في أوكرانيا، والإجراءات الروسية رداً على هذه العقوبات؛ أعلنت الجزائر رسمياً، في 7 يوليو الجاري، رفع أسعار بيع الغاز التعاقدي المُوَرَّد عبر خط أنبوب نقل الغاز “ميدغاز”، الذي يربط الجزائر بأوروبا عبر إسبانيا.
وكشف تقرير إعلامي عن أن شركة “سوناطراك” تدرس إعادة التفاوض بشأن الأسعار مع الشركات التي تتلقى الغاز من خط أنابيب “ميدغاز”، بما في ذلك “ناتورجي” و”سيبسا” و”إنديسا” في إسبانيا، و”غالب” في البرتغال، و”إنجي” في فرنسا.
دوافع اقتصادية
بالطبع، تتمتع شركة “سوناطراك” بقدرة تفاوضية قوية، فهي تدرك أن “لديها الغاز”، وأن أوروبا “بحاجة إليه”. ففي بيان لها، في 7 يوليو الجاري، أوضحت الشركة أنه تم إبرام اتفاقية مع شركة الطاقة الفرنسية “إنجي” حول العقد المبرم معها، منذ عام 2011، لتوريد الغاز الطبيعي؛ وأضافت أن هذه الاتفاقية تنص على “مراجعة أسعار بيع الغاز التعاقدي المطبق على مدى ثلاث سنوات، والممتد إلى عام 2024″، وذلك بسبب ظروف السوق.
ومن ثم يبدو أن عدداً من الدوافع الاقتصادية ساهمت في قرار الجزائر برفع أسعار بيع الغاز إلى أوروبا، أهمها ما يلي:
1- تفعيل بنود مراجعة العقود مع الشركاء: فبسبب ارتفاع أسعار الغاز في الأسواق الدولية، بشكل كبير، قامت الجزائر، من خلال شركة “سوناطراك” الحكومية، وبحسب تصريح مدير عام الشركة توفيق حكار، في 3 يوليو الجاري، بمراجعة الأسعار لتشمل جميع المتعاونين مع الشركة؛ لأن العقود المبرمة معهم هي عقود طويلة الأجل؛ وأنه من بين بنود هذه العقود إمكانية مراجعة الأسعار والكميات كلما دعت الضرورة لذلك. وكانت أولى هذه المراجعات، الاتفاقية المبرمة بين “سوناطراك” و”إنجي” الفرنسية.
وتأتي مراجعة الجزائر لعقود الغاز كخطوة في الاتجاه العكسي؛ إذ كانت الجزائر نفسها قد تعرضت له من جانب الشركاء الأوروبيين خلال عامي 2018 و2019، حيث تمت ممارسة ضغوط كبرى عليها من أجل تخفيض الأسعار تماشياً مع وضع الأسواق العالمية آنذاك، مما دفع الجزائر إلى تجديد العقود ومراجعة البنود.
2- دعم الاقتصاد وإنجاز مشاريع طموحة: تراهن الجزائر على جعل عام 2022 عاماً للمشاريع الاقتصادية الطموحة، وسط توجه إلى مراجعة قوانين مهمة مثل قانون الاستثمار، وقانوني البلدية والولاية اللذين يرتبطان بالتنمية على نحو وثيق.
وبحسب معطيات رسمية، نقلاً عن لجنة المالية والميزانية بالمجلس الشعبي الوطني، فقد أنهى الاقتصاد الجزائري عام 2021 بأرقام مُشجعة؛ حيث عرفت السنة الماضية ارتفاع الصادرات غير النفطية، التي قاربت 4.5 مليارات دولار، في نهاية شهر نوفمبر الماضي، محققة طفرة استثنائية (وصلت إلى 160 بالمائة، مقارنة بعام 2020).
وتأمل الجزائر في إنجاز عددٍ من المشاريع الاقتصادية، خلال العام الحالي، وهو ما أكده الرئيس عبدالمجيد تبون، خلال افتتاح الندوة الوطنية حول الإنعاش الصناعي، في 4 ديسمبر الماضي، حيث قال أنه “بعد استكمال الصرح الدستوري والمؤسساتي، ستكون سنة 2022 مخصصة للاقتصاد”.
3- احتواء العجز وتغطية النفقات المخصصة للميزانية: تبعاً للمعلومات المتوافرة، بلغت ميزانية عام 2022، ما قيمته 71 مليار دولار، وهو ما يعني ضخامة حجم النفقات المخصصة في الميزانية؛ إضافة إلى مواجهة العجز الذي يفوق 31 مليار دولار.
هذا، فضلاً عن أن شركة “سوناطراك”، كمؤسسة حكومية، وتبحث عن الربح في الوقت نفسه، لا يمكن أن تصرف النظر عن ارتفاع الأسعار العالمية للغاز، خاصة مع زيادة أهمية دور الجزائر كمُوَرِّد للغاز إلى إيطاليا وإسبانيا، ودول جنوب أوروبا الأخرى، بسبب الحرب في أوكرانيا، وفرض أوروبا عقوبات على روسيا، مما دفع الأخيرة إلى خفض إمدادات الغاز إلى أوروبا، عبر خط “نورد ستريم 1″، إلى 40% من طاقته.
وتبعاً لتقرير نشرته وكالة “رويترز”، في 30 يونيو الماضي، فقد أوضح مسئول في “سوناطراك” أن إيرادات الجزائر من النفط والغاز ارتفعت، على أساس سنوي، بنسبة 70% خلال الشهور الخمسة الأولى من العام الحالي 2022، ووصلت إلى 21.5 مليار دولار.
4- مواجهة النمو المتزايد في الاستهلاك المحلي: كشفت دراسة أعدها وزير الطاقة الجزائري السابق عبد المجيد عطار، حول “واقع الطاقة وتحدياته في الجزائر بحلول عام 2035″، عن تصاعد استهلاك الطاقة في البلاد. وأكدت الدراسة ارتفاع استهلاك الغاز الطبيعي، بين عامي 2017 و2019، بنسبة 80.6%، والكهرباء بنسبة 78.2%، ثم المنتجات النفطية بنسبة 51.5%. وشددت الدراسة على أنه مع نمو الاستهلاك المحلي، فمن المتوقع ألا تفوق صادرات النفط والغاز الجزائرية، في عام 2033، نسبة 10%، في حين يتوجه 90% من الإنتاج نحو تغطية الاحتياجات الداخلية.
ولعل هذا يُمثل أحد الأسباب الرئيسية لمذكرة التفاهم بين “سوناطراك” وشركة “إيني” الإيطالية، التي تم التوقيع عليها خلال زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى إيطاليا، في 26 مايو الماضي، بشأن التنقيب عن الغاز في الجزائر. هذا بالإضافة إلى تخصيص شركة “سوناطراك” مبلغاً مهماً للاستثمار قدره 39 مليار دولار، يمتد إلى عام 2026.
أبعاد سياسية
تأتي مراجعات أسعار الغاز الجزائري في وقت صعب بالنسبة إلى أوروبا، حيث يتدافع الأوروبيون لملء مرافق التخزين قبل موسم الشتاء، ووضع خطط طوارئ للاضطراب المحتمل في التدفقات الروسية. ورغم توافر الدوافع الاقتصادية لهذه المراجعات، فإن الأمر لا يخلو من أبعاد سياسية وراء تلك الخطوة، يتمثل أبرزها في:
1- تفعيل أهمية الجزائر كلاعب إقليمي جنوب أوروبا: ساهمت تداعيات الحرب في أوكرانيا على أسواق النفط والغاز، في اتجاه الأنظار الدولية، خصوصاً الأوروبية منها، إلى ضفة المتوسط؛ وهو ما زاد من أهمية الجزائر، ليس فقط بصفتها مُوَرِّداً للغاز إلى إيطاليا وإسبانيا ودول جنوب أوروبا؛ ولكن أيضاً كـ”لاعب رئيسي”، كونها تحتل المركز الثالث في إمداد أوروبا بالغاز، بعد روسيا والنرويج.
بل إن ما يجري هناك، في شرق أوروبا، دفع الجزائر إلى محاولة استعادة نفوذها كـ”قوة متوسطية”، والدخول على خط عدد من الملفات الإقليمية، كالملفات الخاصة بكل من تونس وليبيا؛ إضافة إلى التحكم الواضح في تحديد “الموزع الرئيسي” للغاز الخاص بها في أوروبا.
2- تحديد “الموزع الرئيسي” للغاز الجزائري في أوروبا: قررت الجزائر، بشكل لافت للنظر، تغيير اتجاهها الاستراتيجي نحو إيطاليا، التي باتت، اعتباراً من 26 مايو الماضي، “الموزع الحصري للغاز في أوروبا”، بعد أن كانت شريكة في هذا مع إسبانيا. جاء ذلك بعد إعلان الرئيس الجزائري أن “إيطاليا ستكون الموزع للغاز الجزائري إلى أوروبا، بعد زيادة الإمدادات إليها”، خلال مؤتمر صحفي في روما مع نظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا.
وكان هذا الإعلان من جانب الرئيس الجزائري تأكيداً للاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين شركتي “سوناطراك” الجزائرية و”إيني” الإيطالية، في 11 أبريل الماضي، بشأن زيادة حجم إمدادات الغاز، باستخدام القدرات المتاحة لخط أنبوب “ترانسماد”. وبموجب هذا الاتفاق، سوف تحصل إيطاليا على كميات إضافية من الغاز الجزائري، تصل إلى 9 مليارات متر مكعب سنوياً؛ بما يعني زيادة صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي إلى إيطاليا بنحو 50%.
ومما له دلالة في هذا المجال، إعلان الرئيس عبد المجيد تبون، في 18 يوليو الجاري، عن توقيع بلاده اتفاقاً لتزويد إيطاليا بكميات كبيرة من الغاز، تبلغ قيمتها 4 مليارات دولار.
3- الضغط على إسبانيا لموقفها من قضية الصحراء: يأتي قرار الجزائر بتغيير اتجاه شراكتها الاستراتيجية نحو إيطاليا، في إطار أزمة دبلوماسية متصاعدة مع إسبانيا؛ وذلك بعد تبني مدريد، أواخر مارس الماضي، مبادرة “الحكم الذاتي” المقترحة، منذ عام 2007، من جانب المغرب لإيجاد تسوية لمشكلة الصحراء الغربية. واللافت أن الجزائر قد أعلنت، في يونيو الماضي، تعليق العمل بمعاهدة “الصداقة وحسن الجوار” التي أبرمتها مع إسبانيا قبل 20 عاماً، وحظر كل الواردات منها، على خلفية موقفها من قضية الصحراء الغربية.
وبحسب تقرير لوكالة “بلومبيرغ” الأمريكية، نشر في 13 أبريل الماضي، فإن إيطاليا قد حصلت، بموجب اتفاقها مع الجزائر، على “ثلاثة أضعاف” كمية الغاز التي تحصل عليها إسبانيا. يضاف إلى ذلك، التراجع الحاصل في واردات الغاز الإسبانية الشهرية من الجزائر، من 60% من مجموع ما تستورده إسبانيا من الغاز إلى 29% فقط. وفي 24 يوليو الجاري، أعلنت شركة “سوناطراك” تعليقاً مؤقتاً لتوريد الغاز إلى إسبانيا، بسبب عطل أصاب أنبوب الغاز “ميدغاز” في الجانب الإسباني، وأن العمل جارٍ على إصلاحه.
تعزيز المكاسب
في هذا السياق، يمكن القول إن الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على أسواق النفط والغاز في العالم، دفعت الجزائر إلى القيام بمراجعة عقود توريد الغاز إلى أوروبا، لأجل إعادة تقييم الأسعار، والاستفادة من ارتفاعها في الأسواق الدولية. بيد أن العوامل الحاكمة لهذه الخطوة لا تتوقف عند حدود الدوافع الاقتصادية، ومحاولة الاستفادة من ارتفاع أسعار الغاز والنفط؛ ولكنها تشتمل أيضاً على عدد من الأبعاد السياسية، التي سوف تُعيد رسم العلاقات بين الجزائر وشركائها الأوروبيين، خاصة مع التغير الحاصل في التوجه الجزائري نحو الشراكة الاستراتيجية مع إيطاليا بدلاً من إسبانيا التي كانت إلى وقت قريب الشريك المفضل للجزائر.