المبادرة الجديدة للإدارة الأمريكية.. واستمرار الفوضى فى الشرق الأوسط – الحائط العربي
المبادرة الجديدة للإدارة الأمريكية.. واستمرار الفوضى فى الشرق الأوسط

المبادرة الجديدة للإدارة الأمريكية.. واستمرار الفوضى فى الشرق الأوسط



تعودنا مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، باستثناءات قليلة، أن اهتمامها بالشرق الأوسط، وخصوصا بالقضية الفلسطينية، عندما يتبلور فى صورة مبادرة تدعو لها الأطراف المعنية فيه، يتمخض عن المزيد من نشر الفوضى فيه، وكأن ما به من فوضى نتيجة تدخل أطراف إقليمية ودولية فى شئونه والمنازعات الداخلية فى دوله وبينها، لا تكفيه. طبعا نحن نذكر آخر هذه المبادرات على عهد الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، والذى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واقتضى من الدول العربية التى تسعى لتحسين علاقاتها بالولايات المتحدة أن يكون طريقها إلى ذلك هو التطبيع الكامل مع إسرائيل، وهذا ما حدث مع البحرين والسودان والمغرب والإمارات التى قبلت هذا الشرط الأمريكى، والبعض برر التطبيع مع إسرائيل بأنه المكافأة التى يقدمها للدولة العبرية نظير توقفها عن بناء مستوطنات جديدة فى الضفة الغربية، ولا يحتاج المرء معرفة واسعة بشئون الإقليم ليدرك أن التزام الحكومة الإسرائيلية بهذا الوعد لم يتجاوز ربما بضعة أسابيع.
من السذاجة تفسير هذا السلوك الأمريكى بالمكر من جانب القادة الأمريكيين والسذاجة من جانب القادة العرب. طبعا لا يخلو الأمر فى عالم السياسة من وجود ماكرين وسذج، ولكن سيكون التسليم بذلك تسطيحا للأمور. أى إدارة أمريكية تنظر إلى الشرق الأوسط فى إطار مشاغلها الداخلية والخارجية، مثل حرصها على إرضاء جماعات المصالح المتنفذة فى النظام السياسى الأمريكى، وفى مقدمتها جماعات اللوبى الصهيونى، والذى يزداد قرب الانتخابات الرئاسية وكذلك تنافسها مع القوى الكبرى العالمية فى الشرق الأوسط وخارجه، أما القادة العرب فشاغلهم الأساسى أوضاعهم الداخلية ومنازعاتهم مع جيرانهم من العرب وغير العرب، ولكنهم كلهم حريصون على أن يبرروا كل ما يقومون به باعتباره يخدم مصالح الشعب الفلسطينى.
المبادرة الأمريكية الجديدة
ينطبق ذلك بكل تأكيد على المبادرة التى تزمع إدارة الرئيس جو بايدن إعلانها قريبا بحسب ما كشف عنه توماس فريدمان كبير محررى صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، وخبيرها الأول فى شئون الشرق الأوسط بحكم عمله السابق فى بيروت والقدس وبفضل صلاته على أعلى المستويات بقادة الشرق الأوسط وبالمسئولين عن الشرق الأوسط فى الحكومة الأمريكية. كشف فريدمان فى مقاله المنشور يوم الخميس الماضى بتلك الصحيفة أن كلا من جيك سوليفان، مستشار الرئيس الأمريكى للأمن القومى، وبريت مكجورك، كبير مسئولى الشرق الأوسط فى البيت الأبيض، كانا فى الرياض فى وقت نشر مقاله يبحثان مع الأمير محمد بن سلمان عناصر تلك المبادرة الجديدة، والتى تقوم أساسا على قبول الولايات المتحدة مطالب المملكة الأمنية مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل وتنازلات محدودة للشعب الفلسطينى.
المطالب السعودية التى تستعد الإدارة الأمريكية لقبولها هى أولا معاهدة دفاع مشترك بين البلدين تتمتع فيها المملكة بمركز قانونى يماثل وضع الدول أعضاء حلف الأطلنطى، فيكون أى اعتداء على السعودية بمثابة اعتداء على الولايات المتحدة الأمريكية، وثانيا برنامج نووى سلمى تحت رقابة الولايات المتحدة، وثالثا تسليم السعودية نظاما دفاعيا متقدما مضادا للصواريخ وأسلحة متطورة من الترسانة الأمريكية. وفى مقابل ذلك تقوم السعودية بالتطبيع الكامل لعلاقاتها مع إسرائيل بما فى ذلك تبادل البعثات الدبلوماسية والتعاون الاقتصادى، كما توقف الحرب فى اليمن، وكذلك، وهذا أمر بالغ الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، أن تحد المملكة من علاقاتها الاقتصادية مع الصين، وخصوصا مع شركات تكنولوجيات الاتصالات الصينية المتقدمة وتحديدا هواوى وهو أمر سبب قلقا شديدا للولايات المتحدة الأمريكية.
وكان مطلب تطبيع العلاقات مع إسرائيل أمرا ألح عليه بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، ولكنه اصطدم برفض السلطات السعودية أن يتم ذلك قبل حل القضية الفلسطينية، ولذلك تعرض الإدارة الأمريكية بعض الخطوات التى يتعين على الحكومة الإسرائيلية قبولها تبقى الطريق مفتوحا أمام الانطلاق إلى حل الدولتين وهى إعلانها أنها لن تضم الضفة الغربية أبدا، وأنها لن تقيم مستوطنات جديدة ولن تتوسع فى المستوطنات القائمة، كما أنها لن تضفى وضعا قانونيا على المستوطنات «غير الرسمية»، وفضلا عن ذلك فإنها سوف تعيد للسلطة الفلسطينية بعض الأراضى التى أوكلها لها اتفاق أوسلو فى المنطقتين ألف وباء، ولكنهما ظلا تحت سيطرة القوات الإسرائيلية، وفى مقابل ذلك يتعين على السلطة الفلسطينية تأييد تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
حساب الأرباح والخسائر
ما هو توزيع الأرباح والخسائر فى هذه الصفقة المقترحة؟، هناك مكسب صاف للولايات المتحدة الأمريكية، فمعاهدة الدفاع المشترك مع السعودية لن تؤدى بالولايات المتحدة إلى دخول حرب ضد أعداء السعودية. من المفهوم طبعا أن المقصود بمثل هذه الاتفاقية وببرنامج الدفاع المتقدم ضد الصواريخ هو الوقوف أمام هجوم إيرانى ضد السعودية، ولكن تطورات العلاقات الإيرانية السعودية الشهور الأخيرة تجعل من خطر مثل هذا الهجوم أمرا قليل الاحتمال بعد تبادل السفراء بين الدولتين بعد قطيعة امتدت لسنين، وتبادل اللقاءات بين كبار مسئولى السياسة الخارجية والأمن بين البلدين، وهو ما توسطت فيه الصين. كما أن البرنامج النووى السعودى المقترح سيكون تحت مراقبة الولايات المتحدة، وسيكون بوسع الولايات المتحدة أن تحول دون امتلاك السعودية سلاحا نوويا يخرج من هذا البرنامج، أما الأسلحة المتقدمة التى سوف تنقلها الولايات المتحدة للسعودية، فهى ستكون مبيعات ضخمة تستفيد منها شركات السلاح الأمريكية، ومع تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فلن يكون لدى إسرائيل ما يدعوها للقلق من امتلاك السعودية لمثل هذه النظم الدفاعية والأسلحة المتقدمة. كما لا يجب أن نقلل من أهمية حد المملكة من علاقاتها الاقتصادية مع الصين وشركاتها الكبيرة العاملة فى مجال الاتصالات، وهى منافس تخشى منه الولايات المتحدة، فضلا عن أن الولايات المتحدة انزعجت من اقتراح الجانب السعودى تقييم سعر برميل النفط باليوان الصينى، وهو ما يمثل تحديا لمكانة الدولار فى التعاملات المالية الدولية.
وتتلقى إسرائيل بموجب هذه المبادرة مكاسب لم تحلم بها. تطبيع العلاقات مع السعودية ذات المكانة الروحية المتميزة فى العالم الإسلامى يفتح الباب أمامها للتطبيع مع كبرى الدول الإسلامية فى آسيا خصوصا إندونيسيا وماليزيا وربما بنجلاديش وباكستان، وحتى إن لم يحدث ذلك على الفور فمجرد الدخول فى علاقات اقتصادية مع السعودية هو مقدمة لصفقات هائلة فى مجال التكنولوجيا والسلاح وربما الزراعة والمعاملات المالية، فضلا عن أنه ينهى فصلا طويلا من العداء العربى الرسمى لإسرائيل. وطالما ألح الساسة الإسرائيليون على الإدارة الأمريكية أن تكثف ضغوطها على المملكة لتحقيق هذه الغاية العزيزة لديهم.
فى المقابل لا تقدم إسرائيل للشعب الفلسطينى تنازلات ذات شأن. الوعد بعدم ضم الضفة الغربية أبدا يمكن لحكومة إسرائيلية التنصل منه بعد الانتخابات الأمريكية القادمة، وسوف تجد الحكومة الإسرائيلية من الذرائع للاستمرار فى توسيع المستوطنات، والمبادرة الأمريكية لا تلزمها بتصفية المستوطنات غير الرسمية، ولكن ألا تضفى عليها وضعا قانونيا، ونظرا للقوة التصويتية لسكان المستوطنات، فلن تستبسل حكومة إسرائيلية فى مقاومة احتجاجاتهم لتوسيع هذه المستوطنات وتمتعها بمركز قانونى. ولا شك أن الحكومة الإسرائيلية سوف تكون سعيدة بمبادرة أمريكية لا تذكر وضع القدس، ولا تلزمها بالدخول فى مفاوضات جادة لتحديد الوضع النهائى للأراضى الفلسطينية.
لن أدخل فى حساب مكاسب المملكة السعودية فى هذه المبادرة، فهى من ناحية تستجيب لمطالب القيادة السعودية، وهى التى سوف تقدر ما إذا كان ما تكسبه من وفاء الولايات المتحدة بما طلبته منها يعادل أو يتفوق على توتر محتمل فى العلاقة مع إيران، واهتزاز صورتها فى العالم الإسلامى وهى تقبل ببقاء الأماكن المقدسة فى فلسطين ليس فقط تحت سيطرة السلطات الإسرائيلية، ولكن ضحية لاعتداءات شبه يومية من غلاة المتطرفين الإسرائيليين، وخسارة التوازن الذى حققته فى سياستها الخارجية بتعزيز علاقات متميزة مع الصين، هى مدعوة بحكم هذه المبادرة إلى خفض مستواها ومجالاتها.
الخاسر الصافى فى هذه الصفقة هو الشعب الفلسطينى الذى سوف يتلقى تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل دون تحقيق حلمه فى أن تكون له دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧ كصفعة جديدة توجهها أقوى دولة عربية بحساب الاقتصاد والنفوذ العالمى والمكانة الروحية لتطلعاته المشروعة، وتخليا من النظام الرسمى العربى علنا عن الوقوف معه فى مواجهة الصلف الإسرائيلى. التنازلات التى تقدمها إسرائيل بموجب هذه المبادرة تبقى مساحات واسعة من أراضيهم تغطيها المستوطنات الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية ولا تحميهم من تغول المستوطنين على أماكنهم المقدسة، ولا تضمن تقدمهم نحو الوفاء بحقهم المشروع فى تحقيق المصير.
احتمالات تحقق المبادرة
ولكن ما هى احتمالات تحقق المبادرة؟ تتوقف الإجابة على هذا السؤال على مدى قبول الأطراف المعنية بشروطها وهو ليس أمرا مؤكدا فى صياغتها الحالية التى أوجزها توماس فريدمان فى مقاله بصحيفة نيويورك تايمز. هل تقبل القيادة السعودية بهذه الالتزامات المطروحة على الحكومة الإسرائيلية كالثمن الضرورى للرضوخ لها من جانب الرأى العام فى الوطن العربى والعالم الإسلامى والشعب الفلسطينى؟ لا شك أن الالتزام بعدم ضم الضفة الغربية وعدم توسيع المستوطنات ليس حلا للقضية الفلسطينية، وهو الشرط الذى كان المسئولون السعوديون يعلنونه لقبولهم تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وفيما يتعلق بالشعب الفلسطينى، فعدم قبول بعض قياداته خصوصا فى حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى لهذه الشروط لن يحول نظريا دون مضى السعودية فى تنفيذها. ولكن سيلقى هؤلاء التأييد من الأطراف العربية التى تخرج خلو الوفاض من هذه المبادرة وخصوصا الحكومة السورية وأنصار إيران فى الوطن العربى وفى مقدمتهم حزب الله فى لبنان.
الصعوبات الحقيقية هى فى إسرائيل والولايات المتحدة. هل تقبل الأحزاب المتطرفة فى إسرائيل أن تتعهد الحكومة الإسرائيلية وفقا لهذه المبادرة بعدم ضم الضفة الغربية وإعادة بعض الأراضى لتكون تحت سيطرة السلطة الفلسطينية؟ تشير التقارير الصحفية إلى مساع لتكوين حكومة واسعة فى إسرائيل تخرج منها هذه الأحزاب، وبالتالى تكون أكثر استعدادا للتمشى مع عناصر المبادرة كسبا للجائزة الكبرى وهى تطبيع العلاقات مع السعودية وبعض الدول الإسلامية.
وفى الولايات المتحدة اعترض بعض الكتاب بالفعل على مساعدة السعودية بتقديم أنظمة دفاعية متقدمة أو تطوير برنامج نووى سلمى، ويتصور فريدمان أن الجناح التقدمى فى الحزب الديمقراطى سوف يعترض على مبادرة تقدم جائزة لبنيامين نتنياهو الذى يستسلم لمطالب أحزاب دينية متطرفة ويلغى استقلال السلطة القضائية فى إسرائيل، كما أن مثل الجناح المؤيد لحقوق الشعب الفلسطينى لن يرى فى هذه المبادرة خطوة على طريق الوفاء بالحقوق المشروعة لهم.
أيا كان الرأى فى احتمالات تحقق هذه المبادرة، فمن المؤكد أنها سواء بقيت موضوعا للجدل بين أطرافها أو فى حالة قبولها وتنفيذها، فلا شك أنها ستسهم فى زيادة الفوضى فى الشرق الأوسط، وكأن ما فيه من فوضى لا يكفيه.

نقلا عن الشروق