«الماركة الوطنية» في ميدان التنافس الدولي – الحائط العربي
«الماركة الوطنية» في ميدان التنافس الدولي

«الماركة الوطنية» في ميدان التنافس الدولي



لا يكاد يمر يوم في عالمنا العربي من دون أن نسمع تحليلاً أو تعليقاً يتضمن مصطلح «القوة الناعمة»؛ وهو أمر يمكن أن يكون نتيجة لأحد سببين: أولهما مدى أهمية تلك القوة في تعزيز «القوة الشاملة» للدولة الوطنية، وثانيهما أنه يُستخدم أحياناً لتعزيز الفخر الوطني؛ خصوصاً عندما لا تخدم «القوة الصلبة» هذا الفخر وتسوغه.

وبسبب هذا الإقبال الكبير على استخدام مصطلح «القوة الناعمة» وقع عديد من الناس في خطأين: أولهما أن قطاعاً من الجمهور ظن أنها بديل عن «القوة الصلبة» أو تعويض لتراجعها، وثانيهما أن البعض اختصر هذا المفهوم العريض (القوة الناعمة) في فئة الرقص والتمثيل والغناء، وكأن من يصنعها ويديمها ويطورها ليس سوى الممثلين والراقصين والمطربين.

يتم تعريف «القوة الناعمة» بأنها قدرة الأمة على التأثير على تفضيلات وسلوكيات مختلف الجهات الفاعلة على الساحة الدولية (الدول والشركات والمجتمعات والجماهير وما إلى ذلك) من خلال الجذب أو الإقناع بدلاً من الإكراه. ويتم استنتاج ذلك من خلال قياس تصورات الناس عن العلامة التجارية الوطنية (الماركة الوطنية)، عبر مؤشرات الأداء الرئيسية الثلاثة؛ وهي: الألفة، والسمعة، والتأثير، بالإضافة إلى بعض الركائز الأخرى التي تتفرع منها عشرات السمات.

يعود الفضل إلى الاهتمام بمصطلح «القوة الناعمة» إلى أستاذ العلوم السياسية في جامعة «هارفارد» الأميركية، جوزيف ناي، الذي صك هذا المصطلح في بحث نشره في دورية «السياسة الخارجية»، في عام 1990، تحت عنوان «القوة الناعمة: استخدام الجاذبية والإقناع لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة».

وفي أبسط صورة ممكنة، يشرح ناي مفهوم «القوة الناعمة» باعتبارها: «قدرة الدولة على تحقيق الجذب والتأثير من دون إجبار وإكراه»، وبمعنى آخر فهي: قدرة الدولة على خلق مطاوعة لإرادتها وسياساتها لدى الآخرين عبر الإقناع، ودون حاجة إلى «القوة الصلبة».

لكن هذا المفهوم خضع لاحقاً لتطوير وتنقيح؛ كما بات يخضع لمؤشرات عديدة لقياسه وتعيينه تعييناً منضبطاً، وبعض هذه المؤشرات يتضمن عناصر مختلفة، ويصل عدد هذه العناصر إلى 75 عنصراً، ضمن ست مجموعات؛ هي: الثقافة (متضمنة الإعلام)، والتكنولوجيا، والتعليم، والدبلوماسية، والاقتصاد، والسياسة، وفق ما تم تطويره وتفعيله، عبر عدد من المؤسسات والأكاديميات على المستوى الدولي منذ سنوات.

وضمن هذه العناصر الـ75 ستظهر مؤشرات السياحة، والتنافسية الاقتصادية، وكرة القدم، وغيرها من الأنشطة الرياضية، والحوكمة، وعدد الشركات الأجنبية، والقدرة الإلكترونية، وسرعة «الإنترنت»، وحرية الإعلام، وغيرها.

كما توجد أيضاً عناصر تخص حالة الحريات، واحترام حقوق الإنسان، فضلاً عن النفاذية الثقافية، والتأثير المعرفي.

وببساطة أيضاً، ولتقريب الصورة عبر ضرب الأمثلة، فإن نزاهة الانتخابات في بريطانيا، وكفاءة حكومتها، ونجاعة الإدارة العمومية للدولة، من أهم العوامل التي جعلتها تحافظ على المركز الثاني عالمياً في مؤشرات «القوة الناعمة»، كما أن القدرات التعليمية الفذة في ألمانيا كانت عاملاً رئيسياً لاحتلالها المرتبة الثالثة في هذه المؤشرات.

ورغم أن لبنان مثلاً يمتلك طاقة فنية وأدبية وسياحية خلابة ومؤثرة، فإنه يأتي في مرتبة بعيدة جداً مقارنة بالإمارات التي تفوقت بامتلاكها بنية حكم فعالة، ومشاركة سياسية عالمية وإقليمية نشطة، وقدرات أكبر في السياسة الخارجية، وسمعة اقتصادية براقة. والأمر ذاته يتضح عندما نقارن بين دولة كبيرة غنية بالفنون، مثل الهند، مع دولة صغيرة الحجم ومحدودة الإنتاج الفني مثل الدنمارك؛ حيث نجد أن الثانية سبقت الأولى بمراحل، أما الصين التي لا نعرف كثيراً عن نتاجها الفني والثقافي، فإنها لا تزال ضمن الدول الخمس الأوائل.

وفي تقرير مؤسسة «براند فاينانس» (التي تُعنى بتصنيف الدول تبعاً لقوتها «الناعمة») العالمي الأخير، اتضح أن السعودية حسَّنت موقعها كثيراً في هذا الصدد، لتضحى ضمن الدول العشرين الأكثر تمتعاً بـ«القوة الناعمة» عالمياً؛ وهو الأمر الذي تم تفسيره بالتقدم الذي أحرزته في مجالات العلاقات العالمية، والألفة، والشهرة، والسمعة، والتأثير، والتجارة والأعمال، والحوكمة، والتراث والثقافة، والإعلام والاتصال، والقيم، والاستدامة، والتعليم والعلوم.

إن التقدم الذي تحققه الدول في تلك المجالات يتضافر مُنتجاً تأثيراً ومكانة، وتلك المكانة تتحول جذباً وإقناعاً، فتخلق مطاوعة لدى الآخرين وقبولاً، بعيداً عن قدرات الجبر والإكراه.

أفضل ما يمكن أن تفعله دولة في عالمنا المعاصر أن تواصل تعزيز قدراتها «الصلبة» بموازاة تلك «الناعمة»؛ والأهم من ذلك أن تدرك أن تلك الأخيرة لا تنحصر فقط في الرقص والغناء، ولكنها تتسع لتضم مجالات عديدة؛ تبدأ في جودة الحكم، وفاعليته، وتمتد لتشمل مناحي علمية واقتصادية وبيئية وثقافية عديدة.

«الماركة الوطنية» باتت محل تنافس شديد في عالمنا اليوم، وهي مشروع سياسي تقوم عليه الدولة الوطنية، وتستثمر فيه كما تفعل تماماً في بناء قدراتها العسكرية.

نقلا عن الشرق الأوسط