جرى تسريب عزم الملك محمد السادس على الحضور شخصياً إلى الجزائر للمشاركة في القمة العربية، حتى قبل أيام من وصول الدعوة التي يحملها وزير العدل الجزائري عبد الرشيد طبّي. وسرت تكهنات بأنه سيأتي عبر موريتانيا باعتبار أن الجزائر أغلقت الخطوط الجوية مع المغرب، منذ قطعت العلاقات معه. إذا صحّ ذلك فإنه يعني أن الجزائر لا تضع الدعوة إلى القمّة في إطار بداية مصالحة بين البلدين الجارين، علماً بأن المداولات العربية، قبل انعقاد المجلس الوزاري للجامعة العربية وبعده، جعلت انعقاد القمة في الجزائر شبه مشروط بدعوة المغرب وحضوره، وتضمّنت أفكاراً ومساعي للتقريب بين البلدين، وكانت دول الخليج ومصر نشطة في تلك المداولات. أما الخيار الآخر فكان إتاحة عقد القمة في الجزائر لكن تمثيل الدول فيها سيكون متدنّياً. لذا بدا استعداد العاهل المغربي للحضور مشجعاً على رفع مستوى التمثيل لضمان الأهداف السياسية المتوخّاة.
لم تُعقد القمّة العربية في العامين الماضيين. ولا ضرر في ذلك، فغالبية الرأي العام ليست معنية بها ولا تتوقّع منها أي جدوى. لكنها “مؤسسة” خاصة بالملوك والرؤساء، ولا يمكن لالتئام شملهم وتجديد موافقتهم على مواقف موحّدة مكتوبة أن يكونا بلا معنى، على رغم تكاثر حالات عدم الالتزام التي لا تلبث أن تُسقط ذلك المعنى، المعبَّر عنه غالباً بـ”التضامن”.
كان موعدها في 2020 و2021 خلال أزمة الوباء ومكافحته عربياً وعالمياً، ما أسعف سلطات الجزائر وأعطاها، بصفتها الدولة المضيفة، فسحة من الوقت كي تخرج من مرحلة الاحتجاجات وترتّب شؤون الحكم، ولو من دون معالجة الأسباب والجذور الداخلية للأزمة. هذه السنة أكّدت الجزائر أنها جاهزة ومستعدّة لاستضافة القمة، بل راهنت عليها لاستعادة مكانتها الدبلوماسية، العربية والإقليمية، بعد ثلاثة عقود فرضت عليها الانكفاء، سواء لمواجهة مجموعات متطرّفة ومسلحة أو بعد ذلك لإجهاض حراك شعبي سلمي تركّزت مطالبه على إصلاح الحكم ومؤسساته ومكافحة الفساد المستشري واحترام الحريات والحقوق الإنسانية.
راحت الجزائر تعدّ للقمّة بتنسيق وثيق مع الجامعة العربية، لكنها كانت ضربت مساعيها بنفسها حين قرّرت أحادياً قطع العلاقات مع المغرب (آب/ أغسطس 2021)، على خلفية ملف الصحراء الغربية و”التطبيع” المغربي – الإسرائيلي. في العادة تبادر الدولة المضيفة إلى طلب تأجيل دورها أو تقترح عقد القمّة برئاستها في دولة مقر الجامعة (مصر)، إذا كانت ظروفها تحول دون استضافة القمّة. بعيداً من الأضواء نبّهت مراجع عربية عديدة إلى أن هذه القطيعة مع المغرب عقبة عويصة أمام عقد القمّة في الجزائر، لكن الأخيرة قلّلت من التحذيرات وواصلت التحضير السياسي للمناسبة، إلا أنها زادت تعقيدات إلى العقبات.
عندما أكّدت الجزائر أنها تريد دعوة رئيس النظام السوري إلى القمة، كانت هناك رغبة لدى العديد من العواصم في إعادة سوريا إلى عضويتها في الجامعة، لذلك بدا شبه مؤكّد أن بشار الأسد سيجلس في المقعد الخالي منذ أواخر 2011، واقتصر الرفض والاعتراض على عاصمة عربية أو اثنتين لا أكثر، فالدول الأساسية (دول الخليج ومصر) لم تكن ممانعة، كذلك المجموعة الصغيرة المرتبطة بإيران قسراً (العراق) أو طوعاً (لبنان) أو الجزائر نفسها التي كانت دائمة التصويت ضد أي قرار عربي يتعلّق بالنظام السوري، ثم بلورت أكثر فأكثر تموقعها على الخط الروسي – الإيراني، ليس سياسياً فحسب، بل أمنياً أيضاً، من خلال التنسيق والتسهيلات التي توفّرها للدولتين في أفريقيا (مالي ومنطقة الساحل).
لكن موجة الانفتاح على نظام الأسد ومدّه بمساعدات عينية محدودة ما لبثت أن انحسرت تلقائياً، بعدما لمست العواصم المعنية أنه تحت سيطرة إيرانية لا يستطيع الفكاك منها، وبالتالي فإن “الاستثمار” السياسي فيه انتفت جدواه كلّياً. وبعدما تمكّنت المساعي الروسية من تحقيق بداية اختراق لترويج الأسد عربياً ما لبثت أن تلاشت. ومَن بقيت لديه أخيراً ذرّة رهان على الأسد اضطر للتخلّي عنها بعدما ردّ الأخير على “مبادرة عربية – دولية” طرحها الأردن لاستنقاذه باندفاع شرس ومتواصل لعصابات تهريب المخدّرات عبر الحدود الأردنية. وهكذا سقطت ورقة سوريا من يد الجزائر، فتفاهمت مع نظام الأسد على أن يطلب من تلقائه رفع ملفه من جدول أعمال القمّة.
قبل سقوط تلك الورقة واجهت الجزائر تياراً واسعاً في الجامعة يميل إلى سحب استضافة القمّة منها، ولم تكن قطيعتها مع المغرب سبباً وحيداً لذلك، بل أضيف إليها اقتناع عربي عام بأن سياسة الجزائر باتت على نقيض “التوافقات العربية” التي تتبنّاها كلّ قمة، إذ إن تدخّلها الغامض/ المكشوف في ليبيا واتساع نفوذها في تونس وموقفها الملتبس والمتذبذب في قضية سدّ النهضة الإثيوبي، بالإضافة إلى رفدها النفوذ الإيراني وتسهيل دخوله إلى مناطق “جبهة بوليساريو” وغيرها… كل هذه المآخذ فضّلت الجزائر عدم الجدل العلني حولها، وإن كانت سجّلت استياءً مصرياً وخليجياً عميقاً من شأنه أن يطيح القمّة التي لا تزال تراهن عليها، لذلك ارتأت أن تقدّم تنازلاً اعتبرته “شكلياً” لتهدئة معارضيها، وتمثّل ذلك التنازل بالموافقة على دعوة المغرب أسوة بالدول الأخرى عملاً بالتقليد المتّبع والملزم لكل دولة مضيفة للقمّة.
على رغم هذا “التنازل” لا يزال هناك تهامس حول إمكان تأجيل قمة الأول من تشرين الثاني (نوفمبر)، إذ تدرك الجزائر أن المكاسب التي كانت قد توقّعتها لم تتناقص مسبقاً فحسب، بل إن “الحدّ الأدنى” الذي تتميّز به القمم العربية لا يمكّنها من طبع بصمتها ولا يحقّق لها مصلحة. فمجرّد حضور محمد السادس يخترق خطّها المتشدّد ضد المغرب ولا تستطيع التعامل معه بتجاهل بروتوكولي، ثم إنه يمنعها من فرض وجهة نظرها في ملف “الصحراء الغربية” الذي جعلته أحد معايير سياستها الخارجية، خصوصاً مع أوروبا (كما يفعل المغرب)، بل إنه لا يتيح مثلاً دعوة زعيم “جبهة بوليساريو” ولو كمتفرّج كما فعلت أخيراً عندما أقحمته على مؤتمر ياباني – أفريقي في تونس. أما الأهم فهو أن الجزائر مضطرّة لأن تدوّر زوايا كثيرة لتمرير الحدث العربي لديها من دون تداعيات سيّئة، لكن خبراء ومحللين كثراً ينبّهون إلى أنها ليست في صدد تغيير أيّ من سياساتها. فهي تراكم أرباحاً من أزمة الطاقة وتخصّص جلّها للتسلّح لا لحاجات التنمية الداخلية. ثم إنها ترشّح نفسها لتكون شريكة عربية رائدة في المحور الروسي – الصيني – الإيراني، ولعلها تتطلّع إلى القمة العربية كمنصة لتكريس هذا الترشيح.
نقلا عن النهار العربي