انعقدَت القمة العربية الثانية والثلاثون فى جدّة فى ظل متغيرات إقليمية مهمة يمكن تلخيصها فى أنها تمثّلت من جهة فى الانفراج فى العلاقات العربية مع اثنتين من الدول المحيطة بالنظام العربى وهما تركيا وإيران، ومن جهة أخرى فى تصاعد حدّة الانتقادات العربية لسياسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، مع العلم بأن يوم انعقاد القمة كان هو نفسه يوم انطلاق مسيرة الأعلام الإسرائيلية التى كانت بمثابة عرض جديد للقوة، ومن جهة ثالثة فى استمرار إثيوبيا فى إجراءاتها الأحادية المتعلقة بملء وتشغيل سدّ النهضة. هذه التطورات جميعها انعكست بأشكال متفاوتة على كلمات رؤساء الدول العربية وممثليهم فى قمة جدّة، وعلى بيان القمة، وأخيرًا على قراراتها التفصيلية، وهو تفاوت ينبع من عدم وجود سياسة عربية موّحدة تجاه دول المحيط تنطلق من أن الأمن القومى العربى هو كل لا يتجزأ. ومن هنا أهمية ما جاء فى كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى من تأكيد تكامل مفهوم الأمن القومى العربى، ومن أن الوقت حان لأخذ زمام المبادرة للحفاظ على هذا الأمن، بما فى ذلك الخطوات المهمة التى بادرت بها دول عربية لضبط إيقاع العلاقات مع الأطراف الإقليمية غير العربية.
غلب على كلمات رؤساء الدول العربية وممثليهم الاحتفاء بالتطورات الإيجابية فى العلاقة مع كلٍ من إيران وتركيا، والأمل فى أن تنعكس تلك التطورات إيجابًيا على الأمن والاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط وتسهم فى حل أزماتها. وهكذا وصف نجيب ميقاتى، رئيس الوزراء اللبنانى، القمة بأنها «قمة تضميد الجراح» بحكم أنه قد سبقها صدور البيان المشترك بين السعودية وإيران لاستئناف علاقاتهما الدبلوماسية وكذلك قرار المجلس الوزارى العربى بعودة سوريا لشغل مقعدها فى الجامعة العربية.
واستهّل ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى كلمته بالترحيب بشدّة بمساعى استئناف العلاقات السعودية-الإيرانية، وتكرّر هذا الترحيب فى كلمات أخرى عديدة منها كلمات الجزائر والكويت والسودان، وذهب العراق خطوة أبعد من خلال إشارة رئيس وزرائه محمد شيّاع السودانى إلى مشروع طريق التنمية الاستراتيچى الذى يربط ميناء الفاو بالحدود التركية ومنها لأوروبا، وهو المشروع الذى تدخل فيه دول الخليج وسوريا والأردن بالإضافة لإيران، وهذا يوّفر القاعدة الاقتصادية لتطوير وتدعيم العلاقات السياسية بين العرب وكلٍ من تركيا وإيران. ولم يستثن من هذا الاتجاه العام إلا كلمة رئيس مجلس القيادة اليمنى رشاد العليمى الذى وجّه انتقادات حادة للسياسات الإيرانية الداعمة للحوثيين ورحّب لكن بحذر بالبيان السعودي-الإيرانى لعله يقود لمرحلة جديدة من العلاقات الجيدة يتوقّف فيها التدخّل فى الشئون الداخلية للدول، وجاءت كلمة محمد المنفى رئيس المجلس الرئاسى الليبى داعية لخروج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضى الليبية دون تحديد. وعلى حين لم ترد الإشارة بالاسم لإثيوبيا فى كلمات رؤساء الوفود رغم تأكيد ملك البحرين على حقوق مصر فى مياه النيل، إلا أن إسرائيل حضرت فى كل الكلمات من خلال تجديد الإدانة لسياستها التوسعية ومساعيها لتغيير الوضع القانونى لمدينة القدس وتأكيد التمسّك بالقرارات الدولية والمبادرة العربية التى تنَص على قيام دولة فلسطينية مستقلّة على حدود ٤ يونيو ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية.
عكَسَ البيان الختامى لقمة جدّة جوهر كلمات رؤساء الدول العربية وممثليهم فيما يخص الموقف من إسرائيل، إذ إن تأكيد التمسّك بالثوابت العربية تجاه القضية الفلسطينية وإدانة الانتهاكات الإسرائيلية المختلفة بأشّد العبارات- جاء فى البند الأول للبيان. أمًا فيما يخصّ تركيا وإيران فلقد خلا البيان من الترحيب بالتطورات الإيجابية فى العلاقات العربية مع كلتيهما، وذلك على الرغم من تكرار الإشادة بتلك التطورات فى كلمات رؤساء الدول العربية وممثليهم كما سبقت الإشارة، لكن فى الوقت نفسه فإن البيان خلا من أى إدانة للدولتين وجاءت الإشارة المتعلقة بالتدخلات الخارجية فى البندين السادس والتاسع مطلقة، وربما كانت هذه الصيغة التى لم تحتفِ بما هو ايجابى ولم تنتقد ما هو سلبى بمثابة الصيغة التوافقية الواقعية التى تعكس إشكالية التعددية فى المواقف العربية تجاه دولتّى الجوار تركيا وإيران. وأما فيما يخّص إثيوبيا فلقد غابت تمامًا عن البيان الختامى. ولما كان وقف التدخلات الخارجية يرتبط بتعزيز الهوية العربية وتلبية الاحتياجات الاقتصادية للشعوب العربية، اختصّ البيان الختامى هذين المدخلين الثقافى والاقتصادى باهتمامه، وتماشى ذلك مع كلمات رؤساء الدول العربية وممثليهم أثناء القمة، خصوصًا كلمة عاهل الأردن التى كانت اقتصادية بامتياز، وكلمة الرئيس السورى التى ركّزت على ترسيخ الثقافة العربية التى تسع المكونات المختلفة للشعوب العربية. وعندما ننتقل إلى قرارات قمة جدّة نجد اتساقًا تامًا بينها وبين كل ما وردَ فى كلمات رؤساء الدول العربية وممثليهم وأيضًا فى البيان الختامى فيما يخّص الموقف من إسرائيل، لكن القرارات أعطت مساحة لا بأس بها لإبراز القضايا الخلافية مع كلٍ من تركيا وإيران وإثيوبيا، مع الإبقاء على الاستبشار بالتطورات الإيجابية فى العلاقة مع تركيا وإيران والتعويل عليها من أجل تحقيق استقرار المنطقة ونموّها وازدهارها.
إن تطبيع العلاقات بين العرب ودول المحيط، وبالذات تلك الدول التى يشتركون معها فى الحدود والتاريخ والثقافة هو أمر إيجابى بالتأكيد. لكن الحفاظ على استدامة هذه العلاقات الإيجابية إنما هو مهمة لها طرفان وليس طرف واحدً، الطرف العربى الذى عليه أن يتوافق على حد أدنى من المصالح العربية لا يجوز التنازل عنها مع دول المحيط، والطرف الثانى هو دول المحيط نفسها التى يجب أن تتعامل بإيجابية مع اليد العربية الممدودة إليها.
نقلا عن الأهرام