شهدت القاهرة الاثنين والثلاثاء الماضيين حدثا ثقافيا كبيرا، وهو إطلاق ومناقشة تقرير الفكر العربى فى عقدين بالشراكة بين مؤسسة الفكر العربى ومقرها بيروت والمجلس الأعلى للثقافة بمصر. الحدث جذب نخبة كبيرة من المثقفين المصريين والعرب، ناقشوا عدة محاور منها، الفكر السياسى العربى فى مطلع القرن الحادى و العشرين، وجدليات الهوية والمواطنة وإدارة التنوع، وجدل العلاقة بين التعددية الثقافية والتعددية السياسية، وتطور مفهوم المواطنة فى الفكر العربى، وإشكاليات العلاقة بين الدولة والمجتمع ومفاهيم الدولة فى الفكر السياسى العربي.
وتناول المحور الثانى الفكر الاجتماعى العربى فى مطلع القرن الحادى والعشرين وناقش قضايا العلوم الاجتماعية العربية بين العلم والأيديولوجية، والفكر التربوى العربى وإصلاح النظم التربوية والتعليمية فى الدول العربية.
اما المحور الثالث فقد ناقش الفكر العربى وآفاق المستقبل وتناول قضايا الفكر العربى بين العروبة والكونية، والفكر العربى والثورة الرقمية. كنت احد المشاركين فى هذا المحور، وكان الموضوع الذى تحدثت فيه هو العالم العربى والتحولات الكبرى فى النظام الدولي. وفى هذا المقال أشارك القارئ فى عدد من الأفكار التى طرحتها. الفكرة الأساسية هنا هى أن النظام الدولى يمر بالفعل بمرحلة تحولات كبرى، وهى تحولات هادئة وتدريجية لأنها ترتبط بعملية تفاعلات – فى أغلبها- سلمي، وعكس التحولات الكبرى السابقة فى النظام الدولي، والتى ارتبطت بحروب عالمية مثل الحرب العالمية الأولى أو الثانية.
ومن المؤكد أيضا أن العديد من ملامح النظام الدولى القديم، الذى أسس بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت تتداعى الآن، ولكن النظام الدولى الجديد لم يتبلور بعد بشكل كامل، وما زال فى حالة سيولة.
ولكن من الواضح أن هناك العديد من القوى الكبرى والإقليمية التى تتبنى فكرة تغيير النظام الدولي، والتحول نحو نظام دولى جديد، ومنها دول كبرى مثل الصين وروسيا، ودول متوسطة مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا .. وغيرها. كل هذه الدول تؤمن بأن مرحلة القطبية الثنائية قد انتهت، وانتهت كذلك لحظة القطبية الاحادية التى ارتبطت بنهاية الحرب الباردة، وأن العالم يسير الآن فى اتجاه التعددية، ويجب أن تعكس المنظمات والهياكل الدولية هذه التعددية وموازين القوى الجديدة فى العالم. أحد التحولات الكبرى فى النظام الدولى أيضا هى تراجع فكرة العولمة، والتى حلت محلها فكرة الإقليمية، بمعنى أن العالم مقسم إلى أقاليم جغرافية مختلفة، مثل الشرق الأوسط أو جنوب شرق آسيا او الجنوب الافريقى .. وغيرها، ويتسم كل إقليم بتفاعلاته الخاصة به، ووجود واحدة او اكثر من القوى المتوسطة، والتى اصبح تأثيرها يتجاوز نفوذ القوى الكبرى فى هذا الإقليم. التحول الكبير الآخر فى النظام الدولى هو ظاهرة تنافس القوى الكبرى، والتى أصبحت الاستراتيجية المعتمدة للولايات المتحدة، ويقع فى قلبها التنافس الصينى الأمريكي، وهو تنافس تكنولوجى بالأساس حول من سوف يملك صناعة التكنولوجيا المتقدمة فى العالم بأبعادها الاقتصادية والعسكرية أم التنافس الأمريكى – الروسى فقد أعطى أهمية جديدة للجغرافيا السياسية، و عودة للتنافس حول مناطق جغرافية معينة، سواء فى أوروبا أو إفريقيا أو منطقة المحيطين الهادى والهندي. وارتبطت بذلك أن القوى المنافسة للولايات المتحدة خاصة الصين وروسيا، تقوم بطرح بدائل للمنظمات والتكتلات التى نشأت فى ظل النظام الليبرالى الغربي. وفى هذا الاطار ازداد الاهتمام الصينى والروسى بتوسيع تكتل بريكس، بالإضافة إلى إنشاء بنوك دولية للتنمية، والاستثمار فى البنية التحتية كبديل للبنك الدولى وصندوق النقد الدولي.
وتبقى السؤال الرئيسى حول موقع العرب من هذه التحولات الكبرى فى النظام الدولى وبالتأكيد فإن العالم العربى ما زال مهما فى النظام الدولى، بحكم انه أحد المنتجين الكبار للنفط فى العالم، وهى السلعة التى ازدادت أهميتها فى إطار الحرب الأوكرانية، وفرض العقوبات على تصدير النفط الروسي. وفى إطار عودة الجغرافيا السياسية فإن موقع العالم العربى مازال مهما من الناحية الاستراتيجية، لانه يربط بين الشرق والغرب عبر عدد من الممرات الملاحية المهمة، على رأسها قناة السويس, أما بالنسبة لظاهرة التنافس بين القوى الكبرى، فإنها تخلق قدرا من القيود على حركة الدول العربية، ولكنها فى نفس الوقت تتيح فرصا للتعاون مع القوى الكبرى المختلفة فى إطار نظام دولى التعددية القطبية. ومن المهم عدم المراهنة على إحدى القوى الكبرى وعلى حساب قوة كبرى أخرى.
ولكن يبقى التحدى الأساسى الذى يواجه العالم العربى فى ظل تحولات النظام الدولى هو التحول من العولمة إلى الإقليمية. وهنا سيكون على العالم العربى الإجابة عن سؤال أى إقليمية يريد أن ينتمى إليها؟ هل هى إقليمية الشرق الاوسط التى تضم الدول العربية ومعها دول جوار غير عربية مثل تركيا وإيران وإسرائيل، مع الأخذ فى الاعتبار أن هناك حديثا متزايدا فى الغرب يقوم بالتفرقة بين شرق أوسط جديد يضم الدول أصحاب الأداء الاقتصادى الجيد وشرق أوسط قديم يضم الدول المتعثرة. أم سيكون على العالم العربى تطوير نظام إقليمى عربى جديد، يقوم على خلق مزيج بين مصالح الدول الوطنية والمصالح القومية العربية، و فى اطار تطوير فكرة العروبة كى تتماشى مع الواقع الجديد. وهذا هو التحدى الذين يواجه المفكرين والساسة العرب.
نقلا عن الأهرام