العودة للواقعية – الحائط العربي
العودة للواقعية

العودة للواقعية



ما الذى يربط بين الزيارة المتوقعة للرئيس الأمريكى جو بايدن للشرق الأوسط، وبين تغير جانب من الخطاب الأمريكى بشأن أوكرانيا؟ الإجابة المختصرة هى الواقعية.

والواقعية هى إحدى النظريات الكبرى فى العلاقات الدولية، والتى تنظر للعالم كما هو وليس كما ينبغى أن يكون، وتؤمن بأن النظام الدولى فى حالة فوضى دائمة، وأن الاستقرار يتحقق من خلال توازن القوى، وأن العلاقات بين الدول يجب أن تقوم على المصالح وليس استنادًا للمبادئ الأخلاقية أو المثالية.

ولكن ما هى علاقة الواقعية بالشرق الأوسط وأوكرانيا؟

بالنسبة للشرق الأوسط، فإن الرئيس الأمريكى بايدن قد تعمّد تجاهل هذه المنطقة منذ وصوله للبيت الأبيض، واعتبر أنها لا تمثل أولوية لإدارته، وتحت ضغط ما يسمى بالتيار الليبرالى التقدمى داخل الحزب الديمقراطى، تبنى مجموعة من «القيم» واعتبرها محددًا لتطور علاقة بلاده بعدد من دول منطقة الشرق الأوسط، ودون اعتبار للمصالح الأمريكية الاستراتيجية والتاريخية للولايات المتحدة فى علاقتها بهذه الدول.

الآن نشهد تحولًا فى توجهات الرئيس بايدن، حيث أعلن أنه سيقوم بزيارة المنطقة نهاية هذا الشهر، مما يعنى وضع نهاية لتجاهل إدارته لها على المستوى الرئاسى.

ولكن ما هى دوافع هذا التحول؟ هنا يمكن رصد عدد من الأسباب، أولها أن بعض الأحداث أثبت أن تجاهل الولايات المتحدة للشرق الأوسط لا يعنى تجاهل الأخير للولايات المتحدة، بمعنى أن هناك ارتباطًا عضويًا بين الاثنين، اتضح عند تصاعد التوتر الفلسطينى الإسرائيلى، والذى كان له صدى فى الداخل الأمريكى وفى العالم، ودفع الولايات المتحدة للتحرك لتحقيق التهدئة قبل أن تفلت الأمور وتؤدى إلى تورط أمريكى أكبر فى المنطقة لا تريده الولايات المتحدة الآن، فى ظل سعيها للتركيز على التحدى الصينى والروسى.

.. أما السبب الثانى لعودة الاهتمام الأمريكى بالشرق الأوسط فيعود إلى تداعيات الأزمة الأوكرانية، وخاصة ما يتعلق بأسعار الطاقة، التى ارتفعت بشكل كبير فى العالم وفى الأسواق الأمريكية، وما ارتبط بها من آثار تضخمية، تؤثر على شعبية الرئيس الأمريكى، وعلى حظوظ حزبه الديمقراطى فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الذى ستجرى فى نوفمبر القادم، وبالتالى لا يمكن أن يحدث تخفيض فى أسعار الطاقة إلا إذا قامت الدول العربية الكبرى المنتجة للنفط بزيادة العرض من هذه السلعة، وهو ما يتطلب التواصل المباشر معها، وعلى المستوى الرئاسى.

يضاف لذلك المصالح الانتخابية الأمريكية المتعلقة بدعم مبادرات السلام العربى الإسرائيلى، والترويج لها على أنها إنجاز لإدارة بايدن.

باختصار، هناك مصالح «مادية» أمريكية، تدفع إدارة بايدن للاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط والتعامل معها بمنطق «واقعى».

إرهاصات هذا المنطق «الواقعى» بدأت تظهر أيضًا فى الجدل الأمريكى بشأن التعامل مع الأزمة الأوكرانية، والتى تمثلت فى حديث وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، هنرى كيسنجر، للمنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس، الذى أشار فيه إلى رفضه فكرة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلنطى، وأن أوكرانيا يجب أن تصبح منطقة عازلة بين روسيا والغرب، وأن «النتيجة المثالية ستكون إذا أصبحت أوكرانيا دولة محايدة كجسر بين روسيا وأوروبا»، وحث هنرى كيسنجر أوكرانيا على تبنى «الحكمة» والتنازل عن أراضٍ لروسيا من أجل إبرام اتفاق سلام دائم، وحذر من أن الاستمرار فى الحرب لن يكون بخصوص أوكرانيا، بل سيكون حربًا جديدة ضد روسيا نفسها، وأن هذا التوجه سيؤثر بالسلب على التحالف الغربى، وقد يدفع موسكو إلى تشكيل تحالف دائم مع الصين.

نفس هذا المنطق «الواقعى» تبنته صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية ذات التوجه «الليبرالى» والمؤيد لبايدن، فى مقال عبر عن «رأى» الجريدة، ونشر فى ٢٢ مايو الماضى، وجاء فيه «لا يزال من غير مصلحة أمريكا الانغماس فى حرب شاملة مع روسيا، حتى لو كان السلام المتفاوض عليه قد يتطلب من أوكرانيا اتخاذ بعض القرارات الصعبة». وانتقدت الجريدة عدم وضوح الأهداف الأمريكية فى أوكرانيا، وتغيرها بشكل مستمر، وذكرت أنه دون الوضوح بشأن هذه الأمور، فإن البيت الأبيض يخاطر بفقدان اهتمام الأمريكيين بدعم الأوكرانيين، ويعرض أيضًا السلام والأمن فى القارة الأوروبية للخطر على المدى الطويل.

وذكرت الجريدة أنه يجب على بايدن أيضًا أن يوضح للرئيس الأوكرانى وشعبه أن «هناك حدًا للمدى الذى ستذهب إليه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطى لمواجهة روسيا، وحدودًا للأسلحة والمال والدعم السياسى الذى يمكنهم حشده».

وأضافت الجريدة أنه بالرغم من اهتمام الأمريكيين بالأزمة الأوكرانية، فإن «التضخم هو قضية أكبر بكثير بالنسبة للناخب الأمريكى من أوكرانيا».

باختصار، الولايات المتحدة تشهد عودة للاهتمام بالاعتبارات «الواقعية» وربطها بالمصالح الوطنية الأمريكية والحسابات الانتخابية، وسيؤثر ذلك بالتأكيد على توجهات السياسة الخارجية للرئيس بايدن، وقد تكون البداية فى منطقة الشرق الأوسط.

نقلا عن الأهرام