العروبة تفوز فى كأس العالم – الحائط العربي
العروبة تفوز فى كأس العالم

العروبة تفوز فى كأس العالم



كتبت الدكتورة نيڤين مسعد فى صحيفة الشروق يوم الجمعة الماضى مقالة بديعة بعنوان «نعم توجد عروبة» تناولت فيها الدلالات العروبية التى كشفت عنها فعاليات كأس العالم لكرة القدم فى قطر، ولاحظْت أن كثيرين غيرها فى صحف مصرية وعربية تناولوا الموضوع ذاته، فقد كان العرس العربى فى قطر أوضح من أن يتم تجاهله، ولم تمنعنى كثرة الكتابات فى الموضوع من الإدلاء بدلوى فيه كمساهمة متواضعة فى تسليط الضوء على الأبعاد العربية لفعاليات كأس العالم، خاصة أن هناك من يستميتون لإثبات أن العروبة قد اندثرت وولى عصرها، والواقع أن الدلالات العروبية لفعاليات كأس العالم فى قطر مثلت مفاجأة سارة لكل منتم للعروبة، يجب أن أعترف بأنى لم أكن أتوقعها، فما هى هذه الدلالات التى شكلت أبعاد المفاجأة؟

هناك أولًا أن دولة عربية صغيرة بحجم سكانها ومساحتها ،قوية بإرادتها ومواردها، نافست على تنظيم أكبر حدث رياضى عالمى وفازت به، وفعلت المستحيل على صعيد المنشآت والتنظيم لكى يأتى على المستوى المطلوب، ونجحت فى ذلك رغم كل اللغط الذى صاحب الجهود القطرية فى هذا الصدد، لدرجة القول إن هذه الدورة الأخيرة للكأس مثلت أفضل فعالياتها على الإطلاق، غير أن الأهم من ذلك قد يكون النجاح القطرى فى المعركة الحضارية المفتعلة السخيفة التى حاولت فيها دوائر بعينها ابتزاز قطر من خلال ذلك الجدل العقيم حول حقوق المثليين، وبدلًا من أن يكون لهؤلاء الحق فى قبول اختياراتهم وعدم اضطهادهم تريد تلك الدوائر أن تجعلهم مركز اهتمام العالم، وأن تروج لسلوكياتهم بل وتشجع عليها، محتقرة بذلك قيم الآخرين وعقائدهم، علمًا بأن هذه ليست معركة العرب والمسلمين وحدهم وإنما هى معركة الأغلبية الساحقة من أصحاب الفطرة السليمة من أتباع جميع الديانات الأخرى، والغريب أن تلك الدوائر تسمح لنفسها بالاعتراض على أنماط معينة للزى بدعوى دلالاتها، الدينية أو تعترض على رفع الأذان فى بعض المدن غير المسلمة، وتريدنا فى الوقت نفسه أن نسلم بما يتعارض مع قيمنا وديننا، والمهم أن قطر قد صمدت وانتصرت فى هذه المعركة.

ثم يأتى أداء الفرق العربية التى وصلت إلى النهائيات ليكون مصدرًا للفخر فتهزم السعودية الأرجنتين التى انتهى بها المطاف لتكون حاملة الكأس، وتهزم تونس فرنسا التى حلت ثانية بعد الأرجنتين، أما المغرب فقد أطاحت بفرق أوروبية عريقة كإسبانيا والبرتغال وبلجيكا، وتصدرت مجموعتها وحلت رابعًا لأول مرة فى تاريخ المنتخبات العربية والإفريقية، غير أن الأهم فى سياق هذه المقالة هو الفرحة العارمة من قِبَل الجماهير العربية سواء التى حضرت الفعاليات فى قطر أو التى تابعتها بطول الوطن العربى وعرضه لكل انتصار عربى تحقق، كما أن التفاف هذه الجماهير حول فريق المغرب الذى رفع رؤوس العرب والأفارقة كان غير مسبوق، خاصة أن إنجازه فاق التوقعات، ولم يكن هناك من تفسير لهذه الظاهرة سوى الانتماء، بمعنى أن الكل كان يشعر بأن الفريق المغربى فريقه ويمثله وأن انتصاراته انتصارات لجميع العرب مهما حاول البعض أن يدحض هذا المعنى، وبالمناسبة فإن هذه الظاهرة قديمة وإن بلغت هذه المرة درجة غير مسبوقة بسبب روعة الإنجاز المغربي، وأذكر أن المرحوم محمد الميلى المدير الجزائرى الأسبق للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم روى لى أنه كان يجلس فى مكتبه بمدينة تونس فسمع أصواتًا مدوية اضطرته إلى النظر من النافذة ليتبين ما جرى فلم يجد شيئًا، ثم علم لاحقًا أن هذه كانت صيحات فرح التونسيين داخل منازلهم بفوز مصر ببطولة الأمم الإفريقية لكرة القدم، ومازلت أذكر شرائط الفيديو التى سجلت فرحة أبناء غزة والسودان بالحدث نفسه، ومهما يحاول من لا تسره هذه الظاهرة فإن حقيقة الأمر أن وجدان هذه الأمة قد تشكل عبر التاريخ فى ظل عوامل جامعة، ويكفى تعرض شعوبها لنفس التحديات التاريخية وعلى رأسها الاستعمار وخوضها معارك التحرر منه فى نفس المرحلة التاريخية وتعاضدها فى هذه المعارك ماديًا ومعنويًا لكى تفسر لنا هذه الأنماط السلوكية المتشابهة. التى تظهر أحيانًا فى السلوك السياسى كما فى المواقف الموحدة تجاه فلسطين أو العدوان الثلاثى على مصر أو الغزو الأمريكى للعراق، وظهرت فى الدوحة فى شكل هذا التوحد الجميل حول الفرق العربية.

ولا يمل خصوم العروبة من محاولة إفراغ هذه الظاهرة من محتواها فيدفعون بأن هذه إنجازات وطنية لا علاقة لها بالعروبة فمن أنكر ذلك؟ لكن من قال فى الوقت نفسه أن ما هو وطنى بامتياز لا يكون عربيًا بامتياز أيضًا مادام الانتماء للعروبة يمثل الدائرة الأوسع للوطنية؟ بل لقد أشارت الدكتورة نيڤين مسعد فى مقالتها البديعة إلى نقطة أخرى فى منتهى الأهمية، وهى محاولة هؤلاء حرمان العروبة أصلًا من قيمة الإنجاز عن طريق التشكيك فى عروبة فريق المغرب بالقول إن اللاعبين الأمازيغ هم الذين جلبوا الفوز للفريق المغربى بدلًا من القول إن المغرب يقدم نموذجًا للعروبة الإنسانية السمحة التى لا تنطوى على أى نزعات عنصرية وتستوعب الجميع وتساوى بينهم، تمامًا كما قدمت دولة الوحدة المصرية-السورية التى مثلت ذروة المد العروبى فى القرن الماضى نموذجًا يُحتذى للتعامل مع أكراد سوريا الذين كان البعض يطالب بعدم توزيع أراضى الإصلاح الزراعى عليهم لأنهم ليسوا عربًا.

وتبقى قضية فلسطين التى كانت عروس كأس العالم علمًا بأن جماهيرها يُفترض أنهم جاءوا للترفيه وتشجيع فرقهم، غير أن مشاعر الفرق العربية وجماهيرها وإصرار الوفود الإعلامية الإسرائيلية على استفزاز الجماهير العربية جعل فلسطين تنتصر انتصارًا مدويًا فى كأس العالم، وهذه قضية تحتاج مقالة منفردة.

نقلا عن الأهرام