العروبة الجديدة – الحائط العربي
العروبة الجديدة

العروبة الجديدة



تخضع المسميات القومية لعمليات انتقال وتحول تجعلها أكثر اتساقاً مع روح العصر واقتراباً من المزاج القومي والعالمي، وينطبق الأمر على القومية العربية فلم تبق كما كانت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولم تعد مرتبطة بشكل مباشر بحركات التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار، الذي كان يلفظ حينذاك أنفاسه الأخيرة في القارتين الآسيوية والأفريقية، فقد تغيرت الدنيا وتحول العالم وأصبحت لدينا عملية إعادة هيكلة للعلاقات الدولية المعاصرة وتحركت القوميات في اتجاه أكثر واقعية، وأشد ارتباطاً بالحاضر.

وها نحن نرى ما يحدث من انقسام، بل وصدام بين أبناء القومية الواحدة، أو حتى القوميات المتجاورة، ولنا في الصراع الدموي الدائر بين روسيا وأوكرانيا ما يؤكد أن الدنيا قد تغيرت بحيث انقسمت القوميات وتجزأت الأعراق، فقد كانت روسيا وأوكرانيا وحدتين في الاتحاد السوفياتي السابق، ولم يكن هناك من يتوقع أن يندلع القتال بينهما على النحو الذي نراه، ويكاد ينذر بحرب عالمية حتى ترددت في الأشهر الأخيرة عبارات عن السلاح النووي وإمكانية استخدامه، بعد أن كنا نظن أن توازن الرعب في ذلك هو وسلاح الحرب الجرثومية لم يعد لهما وجود إلا في الأدبيات النظرية للسياسات الخارجية. ولكن يبدو أن الذاكرة البشرية ما زالت تختزن أحداثاً كبرى من آخر حرب عالمية، مثلما حدث في (بيرل هاربر) ثم (هيروشيما) و(نغازاكي)، وها هو العالم المعاصر يقف على أطراف أصابعه باحثاً عن مخرج للأزمة المحتدمة والصراع الدائر.

ونستخلص من ذلك بوضوح أن مفهوم القومية قد تغير وطرأ عليه ما طرأ على غيره من تحولات، وأن الأمر لم يعد كما كنا نقرأ منذ عقود عدة عن الثوابت القومية وجمود القوالب الفكرية في إطارها، فلقد تغير العالم، وأصبحت المسميات تشير إلى كيانات مختلفة لم تكن معروفة من قبل، وانسحب الأمر بالضرورة على القومية العربية حتى أغراني ذلك منذ سنوات قليلة إلى إصدار كتاب بعنوان “العروبة المصرية” أردت منه مناقشة تلك التطورات، التي طرأت على مفهوم العروبة والمدلول الحقيقي لذلك المصطلح في عصرنا الحالي، ولنا هنا ملاحظات عدة:

أولاً: لم يعد لتعبير القومية العربية ذلك الصدى الحاد الذي جعل منها “تابو” لا يمس، وأن الكفر به أمر لا يغتفر، وقد أدى ذلك كله إلى دوران العرب حول تعبير القومية، وكأنه صنم كبير يقدسونه، على الرغم من أن دلالاته قد تغيرت، والمضامين التي يعبر عنها قد تحولت هي الأخرى.

هناك من يرى أن القيمة الحقيقية للقومية لا تظهر إلا في الحروب وأثناء المعارك الكبرى، واضعين في الاعتبار أن تراجع الفكرة القومية لدى الدولة المركزية المحورية، التي نسميها الدولة القاعدة، هو عنصر سلبي آخر يضاف إلى الأسباب والعوامل التي أدت إلى خفوت النغمة القومية وانهيار الدعاوى الوحدوية وبداية الحوار البراغماتي حول مفهوم القومية.

وقد عالجت في كتابي المشار إليه أهمية الدلالات الجديدة لما يمكن تسميته بالعروبة المصرية، وهي تلك العروبة التي كانت مسيطرة يحملها صوت العرب إلى الفيافي والوديان، وقد سمعت ذات مرة عبارة من المفكر اللبناني الكبير إلياس سحاب، قال فيها إنه يقيس معايير العروبة لدى مفكريها بارتباطهم بالدولة القاعدة، التي كانت في تلك الحالة مصر في ستينيات القرن الماضي.

لقد اختلف الأمر الآن نسبياً، فلم يعد للشعارات القومية ذلك المضمون الكلاسيكي، الذي كان سائداً من قبل، كما أن مصر ذاتها قد تغيرت بفعل الهزيمة العسكرية عام 1967، وتحول المزاج العام بعيداً عن الشعارات المتشددة والعبارات الرنانة.

ثانياً: يجب أن نعترف في موضوعية كاملة أن صداماً بين المصالح قد طرأ على أطراف الساحة القومية ذاتها، ولم تعد بالضرورة الأهداف واحدة والوسائل مشتركة، لكننا أصبحنا أمام اختلافات واضحة في أساليب استخدام تعبير العروبة أو الإشارة إليه، فقد أصبحت ذات مدلول ثقافي بالدرجة الأولى، وإذا امتد تأثيره أحياناً فإنما يشير إلى القضية العربية الأولى، ونعني بها القضية الفلسطينية بكل ما لها وما عليها، خصوصاً وأنها قد تحولت في السنوات الأخيرة إلى حالة من الركود، ولا أقول التراجع، ذلك أن بسالة الشعب الفلسطيني متصلة على الدوام، لكن الذي يحدث الآن ليس محاولة حل الصراع العربي الإسرائيلي، وإنما إدارة ذلك الصراع فقط.

ولم يعد ميسوراً الحديث عن اختراق مؤكد لتلك المشكلة المزمنة، خصوصاً وأن تغيرات هائلة قد طرأت على العلاقات الثنائية بين عدد من الدول العربية في جانب والدولة العبرية في جانب آخر، من هنا فإن مفهوم العروبة قد اكتسب دلالات جديدة لم تكن مطروحة من قبل.

ثالثاً: يجب أن نعترف (على المستوى العربي أيضاً) أنه لم يعد هناك وجود لقيادة قومية ذات “كاريزما” جذابة تشد الجماهير في اتجاه وحدوي، فلقد سيطرت لغة المصالح المحلية لدى الدول العربية المختلفة، ولم تعد هناك مساحة واسعة للعواطف الجياشة أو المشاعر الملتهبة، ووعى الجميع الدرس وأصبحوا على قناعة تامة أن الأمة هي في النهاية ملتقى المصالح المشتركة للوحدات المنضوية تحت لوائها، وليست أبداً شعارات وأحلاماً أو حتى أوهام، فنحن نعيش عصر الدولة القطرية بمعناها المحدد ومفهومها الصحيح.

رابعاً: إن الذي يتابع شخصية المنطقة العربية وهوية الأمم التي تعيش فيها، من عرب وفرس وكرد وترك، سوف يكتشف أن الهيكل الجيوسياسي للمنطقة لم يعد كما كنا نبشر به من قبل أو ندعو إليه، فقد سيطرت التحالفات الناقصة، وانتشرت سياسة السرعات المتفاوتة، ولم تعد هناك مساحة حقيقية للانصهار بين القوميات أو التقارب بين الهويات المسيطرة على المنطقة، وأصبحنا بالتالي إزاء حالة من السيولة التي تسيطر على العلاقات البينية بين دول غرب آسيا والمشرق العربي وجنوب الجزيرة، كما أن دول الجوار الثلاث إسرائيل وتركيا وإيران أصبحت لها هي الأخرى أجندات مستقلة قد لا تكون بينها قواعد مشتركة في كثير من الأحيان، ويكفي أن نتأمل المشهد العربي وحده وعلاقاته بالقوى الأخرى في المنطقة، التي تـتأرجح قرباً وبعداً تبعاً للمتغيرات الدولية بالدرجة الأولى والتحولات الإقليمية بالتبعية في معظم الأحيان.

خامساً: يتعين علينا ألا نهمل هنا أهمية الحفاظ على الدولة القومية وخطورة الإقلال من أهميتها تحت دعاوى الأممية، وأوهام التنظيمات المتطرفة، التي تحاول شد المنطقة في اتجاهات لا تخدم مصالح شعوبها، ولكنها تسعى بالدرجة الأولى إلى تمكين سيطرتها التي لن تخدم أهدافها المصالح القومية للأمة أو القطرية لشعوبها واستغلال الدين وتأثيره الخطير على أتباع الديانات الثلاث، ومحاولة تسييس البعد الروحي لها، حيث يتحول إلى قوة معطلة في مسيرة التقدم وقيام دول عصرية تتجه إلى الأمام في ثقة وثبات.

إن الملاحظات السالفة هي محاولة لتأطير أبعاد الصراع العربي- العربي في إطار القومية الواحدة والتفاوت الواضح في هذا السياق، الذي أدى إلى تفتيت المشاعر وتمزيق الروح القومية الواحدة، لذلك فإننا نتمسك برأينا الذي أوردناه في كتابنا السالف الذكر (العروبة المصرية) الصادر عام 2011 في القاهرة، الذي دعا صراحة إلى تكريس المفهوم العصري للعروبة وإحلاله بديلاً من غيره، فالعروبة الحالية ليست هي بيانات الشجب ولا عبارات التأييد، وإنما هي خطوط الغاز وشبكات الكهرباء ومنظومة الطرق الحديثة، فالعروبة أضحت بناء عصرياً وليست وهماً تاريخياً، كما عشنا به من قبل عقوداً عدة وأعواماً مضت من دون تأثير حقيقي على مصالح العرب وآمالهم في غد أفضل.

نقلا عن اندبندنت عربية