العرب فى نظام دولى جديد – الحائط العربي
العرب فى نظام دولى جديد

العرب فى نظام دولى جديد



هناك نظام دولى جديد آخذ فى التشكل، وإن كان من الصعب تحديد ملامحه بدقة. توزيع موارد القوة العالمى الراهن يدلنا على القوى المرشحة للتربع على قمة النظام الدولى البازغ، لكننا لا نستطيع تخيل الشكل الذى ستكون عليه العلاقات بين هذه القوى: أى قدر من الصراع، أى قدر من التعاون، أى نوع من الضغوط والإغراءات ستمارسها القوى الكبرى على الدول الصغيرة والمتوسطة، وما هو الأثر الذى سيخلفه النظام الدولى الجديد على العالم العربى الذى لم يخرج رابحا من النظم الدولية السابقة؟

نكبة فلسطين ومأساتها هى الدليل الأكبر على الخسارة العربية العابرة للنظم الدولية المتعاقبة. عندما وقف على قمة النظام الدولى عدد من القوى المتقاربة المتنافسة، فيما عرف بالتعددية القطبية، تم تقسيم المشرق العربى بين القوى الاستعمارية. لم تحترم انجلترا وعودها للقوميين العرب لتأسيس دولة عربية موحدة بعد إنهاء الحكم التركى، وأصدرت وعد بلفور لمصلحة الصهاينة، وشجعت الهجرة اليهودية لفلسطين. انتهت التعددية القطبية، وبدأ نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة، فتم تقسيم فلسطين، وضاع أكثر من نصفها فى الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل. نضجت الحرب الباردة وانتصفت حقبتها، وبينما كان حليف العرب السوفيتى فى أوج قوته فى الستينيات، وقبل أن تتمكن منه عوامل الجمود، كان العرب المسلحون بالسلاح السوفيتى يخسرون ما بقى من فلسطين، وأراضى دول عربية أخرى بالإضافة إلى أراض إضافية فى بلاد عربية أخرى فى حرب يونيو. انتهت الحرب الباردة، ودخل النظام الدولى فى الأحادية القطبية والعولمة، فحصل الفلسطينيون على نصف اتفاق، وتأسست لهم سلطة، لكن لم تتأسس لهم دولة.

فلسطين عزيزة على كل عربى، لكن العالم العربى أكبر بكثير من فلسطين، فماذا فعلت تغيرات النظام الدولى بالعرب الآخرين؟فى 1945، فى المرحلة الفاصلة بين نظامين دوليين، أسس العرب جامعة الدول العربية، منظمة إقليمية جامعة لزيادة التنسيق والتعاون بين الدول العربية. طموحات بعض العرب كانت أكبر من سقف الجامعة العربية المنخفض، فسعوا أكثر من مرة لتأسيس وحدة عربية اندماجية لم تصمد تجارب الوحدة العربية كثيرا، وتبادل العرب الاتهامات ونشبت بينهم صراعات حامية، أعاقت عمل جامعة العرب، الذين واصلوا الكلام عن الوحدة حتى بعد أن توقفوا عن السعى إليها، فظهرت فجوة كبيرة بين القول والفعل باتت إحدى السمات المعروفة بالضرورة عن السياسة العربية.

فى زمن التعددية القطبية وقعت أغلب بلادنا تحت حكم قوى الاستعمار الأوروبى. ضعفت القوى الاوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، ففزنا بالاستقلال، وشرعنا فى بناء الدولة الوطنية الواقعية بديلا عن دولة الوحدة المتخيلة. كان هذا فى عصر القطبية الثنائية عندما كانت القوتان الأعظم مدفوعتين لتقديم الدعم لحلفائهما لتمكينهم من الصمود فى وجه ضغوط القوة المنافسة. أتاحت ظروف الحرب الباردة والقطبية الثنائية فرصة ذهبية وفر بمقتضاها النظام الدولى موارد كانت ضرورية لتعزيز الدولة العربية الحديثة التكوين. قدم الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة دعما سخيا، كل لحلفائه، فاستفادت الدول العربية من هذا الدعم لترسيخ الدولة العربية الناشئة.

صبت التكنولوجيات السائدة فى زمن الحرب الباردة فى نفس اتجاه تعزيز الدولة العربية، فمنحت الدولة العربية وسائل وإمكانات إضافية لتمتين بنائها. كان هذا هو زمن تكنولوجيا الإذاعة والتلفاز، الملائمة للبث المركزى، حيث تتولى الدولة توجيه رسالتها لكل السكان، فتلقنهم قيم الوطنية والولاء للدولة الناشئة.إنه نفس الزمن الذى انتشر فيه التعليم النظامى الحديث فى بلاد العرب، فوقف ملايين التلاميذ فى طابور الصباح لتحية العلم والتصديح بالنشيد الوطنى، وجلسوا فى فصولهم منتبهين لما يلقنه لهم مدرسون دربتهم الدولة لزرع عقيدة الدولة الوطنية فى نفوس النشء. لقد كانت هذه فرصة نادرة لتمكين الدولة من زرع الولاء لها فى الجيل الصاعد، ومن تنشئة الجيل الجديد وفق قيم تناسب عصر الدولة الوطنية.

لكن الدولة العربية التى تأسست فى زمن الحرب الباردة كانت بناء غير متوازن، فيه من مؤسسات وأدوات السيطرة، أكثر مما فيها من مؤسسات الحوار والمكاشفة والمشاركة. كان من الممكن لعدم التوازن هذا أن يصبح ميزة كبرى، فالدولة القوية لديها فرصة لتحقيق نمو أسرع، وربما كان لديها من الثقة بالنفس ما يشجعها على فتح مساحات التعبير والمشاركة لمد الجسور مع المجتمع عندما يستجد من المتغيرات ما يجعل الانفتاح على المجتمع ضروريا، غير أن هذا لم يحدث إلا فى حالات نادرة. جاء زمن الأحادية القطبية والعولمة، ومعه ثورة فى الاتصالات، منحت الأفراد هامشا واسعا من حرية الحركة. لم يعد الاقتصار على البث المركزى ممكنا، وظهرت فضائيات قادمة من كل أركان العالم، وتبعتها مواقع إنترنت وشبكات تواصل متنوعة تبث فى اتجاهات متعارضة وتنقل رسائل متناقضة، فلم يعد التلاميذ يجلسون فى هدوء يتلقون تعليمات المدرس، والنتيجة صراعات وتفتيت اختبرناه بأنفسنا فيما أطلقوا عليه ربيعا عربيا، لم ينج منه سوى دول الوفرة المالية، باستثناء ليبيا التى حشرها قائدها السابق اختياريا فى زمرة الدول الثورية.

نحن الآن على أعتاب نظام عالمى جديد، فيه تكنولوجيات جديدة للقسر والإكراه والإقناع والمشاركة، وفيه أساليب جديدة للضغط والمكافأة تمارسها القوى الكبرى للقوى ضد الدول المتوسطة والصغيرة. فهل ستتاح للعرب فرصة جديدة لتعويض ما فاتهم فى المراحل السابقة.

نقلا عن الأهرام