أعادت حالة الصراع والاحتراب التي شهدتها ليبيا والعراق، الأيام الماضية، البلدين، إلى صدارة المشهد الإقليمي مرة أخرى، بعد فترة من الهدوء الحذر، لتعيد معها الحديث حول مشكلات وأزمات الاندماج الوطني في المنطقة.
ففي ليبيا، كشفت الاشتباكات التي وقعت بين أنصار كل من فتحي باشاغا رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان، وعبد الحميد الدبيبة رئيس الحكومة المنتهية ولايته، والتي تعد الأعنف منذ الصدامات المسلحة التي شهدتها البلاد في يونيو 2020، أن جميع جهود الوساطة الدولية والإقليمية، ومحاولات لم الشمل الداخلية غير كافية لإقناع الفرقاء الليبيين، بأن الصراع المسلح والفوضى الأمنية وانتشار الميليشيات الخارجة عن القانون، ليست هي الحل لعودة الاستقرار والازدهار.
وفي العراق، أفضت حالة الانسداد السياسي التي شهدها هذه البلد منذ إعلان نتائج الانتخابات التشريعية، التي جرت في أكتوبر الماضي، وفاز فيها التيار الصدري، قبل أن تتعثر خطواته لتشكيل الحكومة، نتيجة ممارسات وألاعيب وقيود القوى الشيعية الأخرى، والميليشيات المسلحة الموالية لها، ذات الوجوه المعتادة والموالية لإيران، إلى خروج أنصار التيار الصدري للشارع، والاعتصام في المنطقة الخضراء، بما أفضى في النهاية إلى وقوع الاشتباكات التي جرت مساء يوم 29 أغسطس، في قلب المنطقة الخضراء، وشارك فيها عناصر من سرايا السلام، الجناح المسلح للتيار الصدري، وقوات الأمن وعناصر من ميليشيا الحشد الشعبى، لتضع العراق على شفا حرب أهلية جديدة، كادت أن تشتعل، لولا تحرك السيد مقتدى الصدر السريع، ودعوته أنصاره إلى الانسحاب فوراً من مواقع الاعتصام، الذي استمر شهراً كاملاً، أمام القصر الحكومي والبرلمان.
وفي الحالتين، الليبية والعراقية، ظهر واضحاً أن استمرار الانقسامات بين قوى سياسية متصارعة، تمتلك كل منها ميليشيات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة، وتدين بالولاء لجهات خارجية، سيظل هو العامل المعطل لأي مسار محتمل لتحقيق السلم والاستقرار الأهلي والمجتمعي، وعودة الدولة إلى ممارسة سيادتها وصلاحياتها، كما سيظل هو عود الثقاب الذي يستطيع أن يشعل فتيل الحرب الأهلية والصراعات الدموية في أي وقت، طالما أن فكرة الاندماج الوطني وإعلاء المصلحة الوطنية العليا غائبتين.
وأخذاً بعين الاعتبار، الدور السلبي الذي تقوم به بعض القوى الإقليمية، التي لا تزال حتى الآن تدعم بعض الميليشيات المسلحة، بدلاً من البحث عن حلول سلمية توافقية، لطي صفحة الخلافات بين الفرقاء في البلدين، فإن هذا الدور السلبي لم يكن ليكون له أي تأثير، في حال اقتنعت القوى السياسية والمجتمعية المختلفة، بأن المصالحة الوطنية القائمة على أساس إعلاء المصلحة العامة للبلاد، على المصالح الفئوية والحزبية الضيقة.
ولكن كيف يحدث ذلك، وهذه المجتمعات مخترقة بصورة كبيرة من القوى الخارجية، التي تتلاعب بها لخدمة مصالحها وأجنداتها الخاصة؟ لا شك أن الحل ليس سهلاً، وأن الأمر يتطلب إعلاء صوت الحكمة في الداخل، حتى لو كان هذا الصوت خافتاً، كما يتطلب تكثيف الدعم العربي لهذه الدول، لإعادتها إلى الحاضنة العربية، ودعم أصوات الاعتدال في الداخل، ودعم أي جهود وطنية أو دولية، تسعى لتأكيد سلطة وسيادة الدولة، وحصر السلاح في يدها، بما يعنيه ذلك من تفكيك الميليشيات المسلحة القائمة، والتي ترتبط في الغالب بأجندات خارجية تمولها.
كما ستظل الحقيقة الثابتة والراسخة، هي أن التناغم والانسجام الوطني بين القوى السياسية والمجتمعية في أي دولة، هي أساس استقرار وازدهار هذه الدولة، وحائط الصد الأول والأهم في مواجهة أي تهديدات أو تحديات تواجه هذه الدول.
نقلا عن البيان