العراق على مفترق طرق «1/2» – الحائط العربي
العراق على مفترق طرق «1/2»

العراق على مفترق طرق «1/2»



تتجاوز الأزمة التى يمر بها العراق حاليًا حدود ما يظهر لنا على السطح من أنه مجرد خلاف على شخص رئيس الجمهورية، فواقع الحال أن هذه الأزمة تختلف عن كل الأزمات السابقة التى واجهها العراق منذ إسقاط حكم البعث، والاختلاف المقصود هنا يظهر فى عنصرين أساسيين: الأول أن الأزمة تدور بالأساس داخل البيت الشيعى الذى هو البيت السياسى الأكبر فى العراق، وفى العادة فإن الأزمات التى تمر بها الكيانات الكبيرة تتسم بالتعقيد، زد على ذلك أن معظم مكوّنات البيت الشيعى مسلحة حتى العظم وهذا يعنى أنه فى حال اندلعت مواجهة بين تلك المكوّنات لا قدّر الله فإنها ستكون مواجهة دموية. وقد بدأَت بعض نذر تلك المواجهة بشكل تجريبى من خلال الهجوم على بعض المقرات والشخصيات المحسوبة على الفريقين الشيعيين المتواجهين حاليًا، هذا بغض النظر عن السؤال عن مَن منهما فعل ماذا، أو مَن منهما هاجم الآخر، فكل طرف يلقى بالمسئولية على الطرف المقابل. أمًا العنصر الثانى الذى يفسّر خطورة الأزمة السياسية الراهنة فهو أن منطقة الشرق الأوسط تمّر حاليًا بمرحلة سيولة وإعادة تشكيل توازناتها وتحالفاتها نتيجة ظروف مختلفة، منها تراجع النفوذ الأمريكى فى المنطقة، ومنها قرب العودة للاتفاق النووى مع إيران، وهذا ينعكس بالضرورة على الوضع فى العراق. ففى واقع الأمر توجد قوى إقليمية عربية وغير عربية تسعى لملء جزء من الفراغ الناجم عن تراجع الدور الأمريكى بالعراق، سواء برّص صفوف السنة ليكونوا لاعبًا أساسيًا فى العملية السياسية، وهو ماحدث فعلًا بالتقريب بين الرأسين السنيين الكبيرين محمد الحلبوسى وخميس الخنجر، أو بالرهان على مقتدى الصدر كلاعب شيعى كبير صحيح لا يعادى إيران لكن لا يمكن أبدًا وصفه بأنه رجل إيران فى العراق كما هو الحال مع أسماء أخرى شيعية كثيرة. ومن جانبها تواجه إيران ما تقول إنه تمدد إسرائيلى فى كردستان العراق، وقد جاء هجوم الحرس الثورى على ما وُصف بأنه مقرات للتجسس لحساب إسرائيل فى مدينة أربيل فى هذا السياق.

على ضوء ما سبق كان من المتوقع أن يفشل مجلس النواب العراقى للمرة الثالثة على التوالى فى تأمين نصاب الثلثين المطلوب (٢٢٠ من إجمالى ٣٢٩ نائبًا) لانتخاب رئيس الجمهورية وبالتالى  تسمية رئيس الوزراء فى جلسة المجلس التى انعقدت يوم الأربعاء الماضي. حضر هذه الجلسة التيار الصدرى وهو الفائز الأول فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ومعه تكتل السيادة السنى والحزب الديمقراطى الكردستانى وبعض النواب المستقلين. وهذا الفريق بمكوناته المختلفة والذى يطلق على نفسه اسم «إنقاذ وطن» عندما حضر الجلسة فإنه كان جاهزًا بمرشح كردى لرئاسة الجمهورية هو ريبر أحمد برزانى من الحزب الديمقراطى الكردستانى ووزير داخلية إقليم كردستان، وبمرشح شيعى لرئاسة الوزراء هو جعفر محمد باقر الصدر سفير العراق فى بريطانيا. وقاطَع الجلسة فريق آخر يطلق على نفسه «كتلة الثبات الوطني» التى تضم كل القوى الشيعية ماعدا الصدريين وبعض المنشقين السنة وحزب الاتحاد الوطنى الكردستانى وجزءًا آخر من المستقلين. هذا الفريق له مرشحه لرئاسة الجمهورية وهو برهم صالح من حزب الاتحاد الكردستانى والرئيس الحالى للعراق، بينما يرفض ترشيح ريبر برزانى للمنصب تشككًا فيما يصفه باتجاهاته الانفصالية الكردية.

أما موقف هذا الفريق من شخص رئيس الوزراء، فإنه لا يمانع فى ترشيح جعفر الصدر الذى كان والده مؤسسًا لحزب الدعوة أقدم حزب شيعى عراقي، لكن هذه الموافقة تتوقّف على شرط إجرائى هو أن يتم الترشيح بواسطة كل القوى السياسية الشيعية وليس بواسطة التيار الصدرى منفردًا، وعلى شروط موضوعية منها الموقف من الحشد الشعبى بالنظر للمطالبات المتكررة بدمج الحشد فى الجيش العراقي.

هناك إذن تنافس شيعي- شيعى حاد يقف فى جانب منه التيار الصدرى وتقف فى مواجهته كل القوى الشيعية الأخرى التى تختلف فى أشياء كثيرة لكن تجتمع على مواجهة مشروع الصدر، ويتوزّع على الفريقين الشيعيين الحزبان الكرديان الكبيران وهما الحزب الديمقراطى الكردستانى والاتحاد الديمقراطى الكردستاني، بينما يذهب معظم السنة مع الصدر، أما المستقلون فإنهم بيضة القبان التى يسعى الفريقان لكسبها بوسائل كثيرة تمزج ما بين الترغيب والترهيب. جوهر هذا التنافس هو مَن يكون له حق تمثيل الشيعة والحديث باسمهم وتحديد اختياراتهم لمنصبَى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء فضلًا عن المناصب الوزارية المختلفة، وصولًا حتى للحق فى المرجعية الشيعية العليا نفسها. وهناك خشية من تطوُر هذا التنافس الشديد إلى صراع مسلّح تخسر فيه الطائفة الشيعية كلها الموقع المتميز الذى احتلته فى نظام ما بعد صدَام حسين، وسوف نجد تلك الخشية معبرًا عنها بوضوح تام عند الفريق المناوئ، للصدر كما فى قول أحد أبرز قيادات هذا الفريق (هناك شعور بالقلق لدى المكوّن الشيعى بشكل عام وتخوّف من ضياع حقوقهم). كما يتبادَل الفريقان الاتهام بالتبعية للخارج، ومع أنه لا تتم تسمية الأشياء بمسمياتها الصريحة إلا أن من المفهوم أن فريق الصدر يتهم خصومه بالتبعية لإيران، بينما يتهم هؤلاء الخصوم فريق الصدر بالتبعية لتركيا وبعض دول الخليج فضلًا عن الولايات المتحدة، ومن هنا القول إن ما يجرى داخل العراق مربوط ربطًا تامًا بما يجرى خارجه.ذلك هو المشهد الحالى فى العراق وتلك خريطة الاستقطاب السياسى فيه، فماهى آفاق تطوره المحتملة؟ هذا هو موضوع مقال السبت القادم إن شاء الله. 

نقلا عن الأهرام