العالم فى انتظار أزمات أكثر حدة – الحائط العربي
العالم فى انتظار أزمات أكثر حدة

العالم فى انتظار أزمات أكثر حدة



منذ ثمانية عشر عاما والمنتدى الاقتصادى الدولى، المعروف بمنتدى دافوس، يصدر تقريرا سنويا عن المخاطر التى تواجه العالم. تبنى التقرير الصادر هذا العام مفهوما مستحدثا، سماه الأزمات المتراكبة polycrises، للدلالة على ظاهرة جديدة فى الأزمات والمخاطرالدولية، حيث كفت المخاطر عن الظهور فرادى متتابعة، وإنما أصبحت تأتى فى حزم مترابطة ومتزامنة. فالتسارع فى معدلات التطوير التكنولوجى والانتشار السريع لفنون الإنتاج والتكنولوجيا، وزيادة الاعتماد المتبادل، والزيادة السريعة فى حركة السفر، والثورة فى تكنولوجيات الاتصالات والمعلومات، كل هذه عوامل تؤدى إلى تسارع توليد وانتشار المخاطر والتهديدات.

الأزمات المتراكبة هى حزمة مخاطر مترابطة، تغذى بعضها، ولها أثر إجمالى يزيد على مجموع آثار كل منها منفردة. لقد اتسمت السنوات الأولى من هذا العقد باضطراب شديد، فما إن بدأ العالم يعتاد التعايش مع وباء كوفيد 19، وبدأت عناصر المعتاد الجديد تدخل إلى حياتنا، إلا وانفجرت الحرب فى أوكرانيا، وهى حرب شديدة الخطورة لأنها حرب تنبئ بتغيرات كبرى فى النظام الدولى فى اتجاهات يصعب التنبؤ بها.أطلقت الحرب فى أوكرانيا أزمات دولية فى مجالات الطاقة والغذاء، فتسبب هذا فى موجة تضخم عالية، وتسارع هروب رأس المال من الأسواق الناشئة، مما تسبب فى زيادة حدة أزمة الديون فى البلاد النامية بشكل خاص. كل هذا ضاعف متاعب نظام اقتصادى دولى مازال يعانى آثار كوفيد 19، فيما تتراكم الآثار الناتجة عن عجز دول العالم عن اتخاذ ما يكفى من الإجراءات لتجنب عاصفة التغير المناخى التى تتجمع سحبها بسرعة شديدة.

بعض الأزمات التى يواجهها عالم اليوم مألوف وسبق لنا أن شهدناه، ويشمل ذلك التضخم وتكاليف المعيشة والحروب التجارية وهروب رأس المال من الأسواق الناشئة وانتشار الاضطرابات الاجتماعية والمواجهات الجيوسياسية والتهديد بالسلاح النووى. لكن أن تحدث كل هذه المخاطر دفعة واحدة، فى لحظة ترتفع فيها مستويات الديون العالمية بشكل غير مسبوق، وتنخفض معدلات النمو والاستثمار، وتتراجع قوى ومؤشرات العولمة، كما تتراجع مؤشرات التنمية البشرية بعد عقود من التقدم المتواصل، فيما تنتشر بسرعة تكنولوجيات مزدوجة الاستخدام مدنيا وعسكريا، وتتزايد ضغوط أزمات التغير المناخى، ويتفاعل كل هذا ليخلق حالة عميقة من عدم اليقين بسبب التزامن غير المسبوق بين كل هذه الأزمات.

المخاطر المتعددة تتفاعل مع بعضها، وتنتج أزمات مكبرة متعددة الأبعاد، تضرب بشكل متزامن فى عدد من النظم العالمية فى مجالات الاقتصاد والأمن والصحة العامة والبيئة. أحد أهم التحديات هو أن إدارة ومواجهة هذه المخاطر يحدث بشكل متفرق من جانب هيئات وفاعلين مختلفين، يختص كل منهم بالعمل ومعالجة الأزمات فى نطاق محدد فى انفصال عن الآخرين المسئولين عن التعامل مع تحديات وأزمات أخرى، فى غياب علاقة تنسيق بين المجالات المختلفة. المعالجات المتعددة المستقلة عن بعضها لأزمات هى بطبيعتها متكاملة يضعف من القدرة على التعامل مع هذه الأزمات.

تضرب الأزمات ليس فقط فى المجالات المختلفة، كالاقتصاد والصحة والأمن، لكنها تضرب أيضا فى المساحات الموجودة بين هذه المجالات. وتأتى المشكلة الإضافية من أنه فى هذه المساحات البينية يوجد عدم وضوح للمسئوليات، وتغيب استراتيجيات واضحة ومجربة للعمل، بما يحول هذه المساحات البينية إلى مناطق غير محمية مفتوحة تنمو فيها الأزمات والتحديات. ويسهم التحول الرقمى السريع فى خلق مساحات بينية واسعة، لا تحكمها القوانين بشكل كاف، وتتقاطع فيها المسئوليات، بما يضاعف من تحديات المخاطر المتعددة؛ والتحدى الأخطر هو صعوبة التنبؤ بكثير من هذه المخاطر المستحدثة، وصعوبة ملاحظتها قبل أن تبدأ فى ممارسة تأثيرها، أى بعد حدوث الأزمة بالفعل.

يتوقع تقرير المخاطر العالمية أنه فى السنوات العشر القادمة ستتفاقم المخاطر الناتجة عن نقص الموارد النادرة، وستتفاقم الأزمات فى مجالات المناخ والبيئة والاقتصاد والصراعات المسلحة والمواجهات الاقتصادية بين الدول، وتعثر انتظام سلاسل التوريد. وتتوقف حدة هذه الأزمة وما إذا كان العالم سيتمكن من مواجهتها على عاملين مهمين، هما ما إذا كانت الدول ستكون قادرة على التعاون فيما بينها، والمسارات التى ستأخذها ظاهرة التغير المناخى، بحيث أنه كلما زاد التعاون بين الدول، وتحسنت إدارتنا لأزمة التغير المناخى، زادت قدرتنا على إدارة أزمة بدأت عناصرها فى التجمع. المشكلة الحقيقية هى أن هذين الشرطين هما من نوع الشروط المستحيلة، فالعالم يتجه نحو مزيد من الانقسامات والصراعات، لا التعاون، وسيكون من الصعب جدا تحقيق تقدم كاف فى مجال تغيير مسار التغير المناخى فى ظل هذه الانقسامات، بما يعنى تعطل آليات التعامل الجماعى المتعدد الأطراف مع الأزمات الدولية، وهو ما يستوجب أقصى قدر من فاعلية المؤسسات الوطنية، والاعتماد على الذات، والإسراع بإدخال الإصلاحات الضرورية لرفع مستويات الأداء العام تحسبا لزيادة حدة الأزمات العابرة للحدود.

التحليل الذى يقدمه تحليل المخاطر العالمية لعام 2023 له أهمية كبيرة فى لفت النظر إلى قصور الهياكل البيروقراطية المسئولة عن المتابعة وصنع القرار عن التصدى بطريقة ملائمة للأزمات المتزايدة، وضرورة إعادة صياغة الأطر المؤسسية لصنع السياسات والقرار بما يحسن قدرتها على العمل فى مواجهة أزمات متعددة متداخلة، ولتغطية مساحات التقاطع بين المجالات التقليدية للإدارة العامة، بحيث تقل المساحات غير المحوكمة، وتزيد القدرة على تطوير سياسات تراعى الآثار غير التقليلدية للأزمات الدولية.

نقلا عن الأهرام