قبل أيام حذّر المفكر الفرنسي «جاك أتالي» من كون العالم على أعتاب أزمات كبرى لا محيد عنها، عدد من بينها الأزمة المناخية التي لم يعد أمام سكان المعمورة سوى ثلاثة أعوام لاستباق آثارها المدمرة، وأزمة الغذاء التي تتسارع نتيجةً للحرب الأوكرانية الحالية وتنذر بعودة المجاعات القاتلة إلى الكثير من مناطق العالم، وأزمة الطاقة والمواد الأولية المتزايدة، والأزمة المالية الشاملة التي نعيش فيها منذ سنوات ويبدو أن أسوأ ما فيها لم يقع بعد، والأزمة الصحية الناتجة عن تطور وانتشار للفيروسات عابرة الحدود وليس وباء كورونا سوى فصلها التمهيدي.
ما يخلص إليه أتالي هو أن المؤسسات العمومية، الوطنية والدولية، ليست جاهزةً للتعامل مع هذه الأزمات التي ستغير نوعياً وجهَ العالَم، وتفرض موجةً غير مسبوقة من الهجرة القسرية التي لا يمكن كبحها، كما ستؤدي إلى إعادة تشكل الخارطة الجيوسياسية الدولية. ما يهمنا في ملاحظات أتالي هو استكشاف آثارها المحتملة في سياقنا العربي الذي هو أحد محاور الأزمات العالمية على أصعد عديدة، لعل أهمها: اقتصاد الطاقة، والحروب الجديدة، والهجرة القسرية، والتحدي الغذائي.
ومن الواضح أن العالَم العربي الذي يشهد منذ سنوات في العديد من مناطقه الحيوية أزماتِ تحولٍ سياسيٍ عنيفةٍ وحادةٍ، أدت في بعض الأحيان إلى انهيار الدولة وتفكك الكيان الاجتماعي، سيدفع غالياً ثمنَ هذه التحديات الكونية الكبرى. لقد بدت مؤشرات هذا الوضع في انتشار المجاعة في العديد من المناطق المنكوبة التي أصبحت خارج قبضة الدولة، كما ظهرت في حركية اللجوء والهجرة التي غدت تهدد تركيبة النسيج الوطني في عدة بلدان، وقد تحمل الأردن ولبنان على الأخص التكلفةَ الباهظةَ للحروب الأهلية التي مزقت المشرق العربي، في حين تحمّلت تونس ومصر أعباء حركية التهجير القسري من ليبيا. إن ثلاثيةَ الحرب والمجاعة والهجرة لا تبدو مجرد ظاهرة ظرفية مؤقتة، بل يبدو أنها ستحمل على إعادة تشكيل المعادلة الجغرافية البشرية للمنطقة.
ومن مظاهر هذه الديناميكية بروز خطوط تمايز غير مسبوقة في المجال السياسي للعديد من الدول ولَّدت أنماطاً من الحوكمة لها مقوماتها التنظيمية والإدارية الخاصة بها، بحيث أصبحت سيادة الحكومات المركزية محصورةً في المدن الكبرى والمراكز الحيوية التي تحتوي الموارد الطبيعية الأساسية، في حين تتحكم المليشيات القبلية والطائفية والمافيات عابرة القارات في مساحات شاسعة خارج السيطرة والضبط تنمو فيها اقتصاديات الجريمة المنظمة والإرهاب العنيف.
أما دوائر الهجرة فتوزَّعت بين هجرة الكفاءات والعقول التي تركّزت في الدول الغربية المتقدمة، وحركة اللجوء الاضطراري إلى الجوار المباشر خالقةً مجتمعاً واسعاً من المهجَّرين المهدَّدين بالمجاعة الذين يعيشون على العون الخارجي في ظروف مأساوية انتقلت من الحالة المؤقتة إلى الوضع الدائم المستمر. ما تطرحه هذه المعادلة المعقّدة هو: كيف تمكن صياغة أشكال التدبير السياسي الناجع لهذه التركيبة الجغرافية البشرية المتفجرة التي تتعارض مع فكرة الدولة السيادية الضامنة للسلم الأهلي والمحتكرة للعنف المشروع؟
كانت الدول الإمبراطورية السابقة مؤهلةً للتعامل مع هذه التحديات نتيجةً لتعدد مستويات ودوائر السيادة فيها، كما أن الحرب كانت فيها من أدوات السياسة المشروعة والثابتة، بيد أن الدولة الوطنية الحديثة تفترض ثلاث ميزات كبرى أصبحت مفقودةً في العديد من البلدان العربية وهي: تناسب السيادة القانونية العمومية والسيطرة الفعلية على كامل المجال الجغرافي البشري، تأمين السلم الأهلي لمجموع سكان الكيان الوطني، التعالي على تناقضات وتصدعات الجسم الاجتماعي واستيعابها في البنيات المركزية المؤسسية للدولة.
ليست المسألة هنا متعلقة بطبيعة النظام السياسي وتوجهاته الأيديولوجية، بل هي سمات ثابتة في طبيعة الدولة الوطنية التي قامت تاريخياً على أنقاض المنظومات الإمبراطورية في أوروبا التي ارتبطت بها أفظع الحروب والصراعات العرقية والدينية، فاتخذت قاعدةَ ارتكاز لها مفهومَ المواطنة المتساوية ودولةَ القانون الضامنة للأمن والسلم الداخلي. وبهذين المرتكزين استطاعت احتواء الأزمات الأمنية والاجتماعية التي كانت تصنع حركةَ التاريخ المأساوية بما فيها مخاطر الحروب والمجاعات والأوبئة القاتلة.
وخلاصة الأمر، أن العالم العربي لن يكون بمقدوره مواجهة الأزمات الإنسانية الخطيرة، التي أشرنا إليها بالرجوع ألى جاك أتالي، إلا بتحصين وتدعيم الدولة الوطنية المنهارة في العديد من الساحات المنكوبة بالحروب الأهلية، بما يواكب ذلك الانهيار دائماً من تهجير قسري ومجاعات وأوبئة قاتلة. ومن هنا ضرورة مساعدة هذه الدول على تجاوز محنها الراهنة كشرط أساسي لحفظ الأمن الإقليمي الجماعي.
نقلا عن الاتحاد