نتألم كثيراً مع متابعة الأحداث الفلسطينية- الإسرائيلية الأخيرة، الممتدة عبر قطاع غزة وتهدد أمن وأمان الشعب الفلسطيني، وغيره من شعوب المنطقة، من دون تمييز أو تفرقة بين مقاتل ومسالم، أو بين الرواد والشباب، والرجال والنساء والأطفال.
أثبتت الأسابيع الأخيرة الكارثية، إسرائيلياً وفلسطينياً، عربياً أو أجنبياً، غربياً أو شرقياً، أن احتلال أراضي الغير، ومنع الشعوب من ممارسة حقوقهم الوطنية هي ممارسات غير مشروعة ومرفوضة، تولد الغضب والإحباط وانفجارات خطرة بين المقاتلين، وتمتد إلى المدنيين العزل والأبرياء على الجانبين، وأن كل وقفة أو هدنة أو هدوء ليس إلا فصلاً وظرفاً موقتاً بين انفجار وآخر، فلا أمن وأمان على أسس باطلة، أو على حساب حقوق الغير، مهما اختل توازن القوى لصالح طرف على حساب الآخرين، ولا أمن وأمان إسرائيلياً وفلسطينياً من دون تمكين الشعبين من ممارسة حقوقهم بالعدل والمساواة على أراضيهم، في إطار حل دولتين مستقلتين الذي سعينا إليه طويلاً من دون نجاح، أو دولة واحدة بحقوق متساوية، التي تعني تنازل كليهما عن حصرية هويته الوطنية مما يجعله بديلاً صعب المنال.
غني عن القول إن السياسات الخارجية للدول وكثير من قراراتها ترتبط بمصالحها وحاجاتها الخارجية الآنية حتى إذا تعارض ذلك مع القواعد والضوابط القانونية، لذا من الخطأ الاعتماد أكثر من اللازم على الغير، ولا بد من تطوير وتدعيم الثقل السياسي والاقتصادي الوطني العربي، والقدرة على اتخاذ مواقف مستقلة، كأداة وعنصر ضغط إيجابي، يؤخذ في الاعتبار من قبل الغير، ونحن نسعى لإنهاء الحروب والعيش في سلام مع الكل، وهذا تنويه أوجهه إلى العالم العربي في المقام الأول.
على الجميع اليقين أن السياسات الخارجية هي ممارسات تراكمية وممتدة، لذا على الدول دوماً الأخذ في الاعتبار السوابق والمبادئ والظروف والأوضاع الآنية، وإنما من دون إغفال تداعيات المواقف التي تتخذها على ما هو مقبل والأوضاع المستقبلية، لأن تصرفاتهم ومواقفهم من الأحداث أو التناقض وازدواجية المعايير ستكون لها تداعيات على مواقف الدول والشعوب الصديقة عندما يتم اللجوء إليها بعد ذلك سعياً للدعم والتعاون والتفاهم.
كيف يمكن تفسير مشاركة الرئيس الأميركي بايدن في مجلس وزراء حرب إسرائيل إلا أنه ضوء أخضر لدولة الاحتلال بأن تفعل ما تفعله عسكرياً ضد الفلسطينيين الذي يشكل عقاباً جماعياً غير مشروع، وهدفها المعلن هو تغير وضع غزة أمنياً بمناطق عازلة، واجتماعياً واقتصادياً بغلق المعابر كافة سوى المعبر الفلسطيني- المصري، لذا فعلى رغم أنني كنت أتطلع أن يلتقي قادة الأردن ومصر وفلسطين مع بايدن لنقل رسالة عربية واضحة وقوية له عن متطلبات السلام في المنطقة، أؤيد تماماً قرار إلغاء الاجتماع، بعد أن وضحت النوايا الأميركية، مع غياب أي استعداد لتوجيه الدفة نحو وقف إطلاق النار والعمل الإنساني والدبلوماسي للتعامل مع الأزمة.
وكيف يمكن تبرير فيتو أميركي لمشروع قرار برازيلي في مجلس الأمن يتماشى كثيراً مع التوجهات الغربية وغير مريح عربياً، ويطالب بهدنة إنسانية موقتة بحجة أن هناك جهوداً دبلوماسية تبذل، فأين التناقض بين الهدنة الإنسانية والدبلوماسية، إلا إذا كان الغرض هو مزيد من الضغط للتهجير من الشمال إلى الجنوب، والآن تقدمت الولايات المتحدة بمشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي يتضمن نصاً عن حق إسرائيل الدفاع عن النفس، وهي خطوة بالغة الخطورة عامة وخاصة في المناخ الحالي، ومع التوجهات الإسرائيلية وعدم احترامها للأسس والضوابط المنظمة لذلك في المادة 51 من ميثاق المنظمة، ونيتها المعلنة في استخدام قوة مفرطة، وتذكرني هذه الإشارة بتفسيرات إسرائيلية عدوانية وباطلة عندما دفعت قبل حرب 1967 بأن تحركها العسكري كان متسقاً مع حقها في الدفاع عن النفس.
وكيف تغيب القيادة الأميركية عن مؤتمر مصري يستهدف إصدار نداء ومبادئ لوقف الاقتتال والتعامل الإنساني وإحياء الدبلوماسية، فكان من المفترض أن تتمسك بالحضور حتى إذا لم يكن هناك حماس عربي لدعوتها.
وعلى رغم تنويهات بايدن عن ضرورة احترام القانون الدولي الإنساني حتى في حالة حرب، لا يمكن تفسير مجمل مواقفه إلا أنها تعبر عن توافق إسرائيلي- أميركي على ما هو قادم عسكرياً وسياسياً وإنسانياً، إن لم تكن وفقاً لخطة إسرائيلية- أميركية لإعادة ترتيب الشرق الأوسط، مع تفتيت واستيعاب الشعب الفلسطيني بدلاً من تمكينه من ممارسة حقوقه الوطنية، خطة يكون ضالع فيها الراعي الأول لعملية السلام، الذي ادعي قبل أحداث غزة أنه داعم للسلام العربي- الإسرائيلي على أساس حل الدولتين، وعلى خلاف مع توجهات الحكومة الإسرائيلية الحالية، ومما يجب أن تدفع الجميع إلى إعادة النظر في منهجية التعامل مع ما تبقي من عملية السلام مستقبلاً.
وهل من المنطقي رفض غزو أراضي الغير في أوكرانيا والتغاضي عن ذلك فلسطينياً؟ هل أصبحت الحملة الانتخابية الرئاسية المقبلة هي الدافع الأول للتحرك الأميركي والرئيس ليخاطب شعبه بحجج واهية وفارغة وغير منطقية، ويطالب بمساعدات عسكرية إضافية هائلة لإسرائيل لردع قوة غير نظامية بمساعدات لا توفر حتى لحلفائه في الحلف الأطلسي؟
أحذر أميركا والعالم الغربي أن ازدواجية معاييره تجاوزت كل الحدود، وأصبحت مرفوضة من القادة والشعوب العربية، وهو ما أكده الرئيس السيسي والملك عبدالله أمام مؤتمر القاهرة، بعد أن خسر الغرب القليل المتبقي من صدقيته لدى الرأي العام العربي، حتى لدى من تحفظ على تعرض “حماس” للمدنيين الإسرائيليين ضمن آخرين في عمليتها الأخيرة، والشارع العربي يرى الولايات المتحدة الآن شريكاً لإسرائيل وأوروبا متخاذلة منحازة وضعيفة، لأن الغرب سارع في إدانة “حماس” وتأكيد دعمه لإسرائيل وحقها في الدفاع عن النفس، من دون مراعاة أن الشعب الفلسطيني هو الذي يعيش تحت وطأة الاحتلال، متجاهلاً أن عدد القتلى الفلسطينيين المدنيين في غزة تجاوز الخسائر الإسرائيلية، وأن القوات والمستوطنين الإسرائيليين يستهدفون مدنيين فلسطينيين أبرياء في غزة والضفة الغربية كذلك، وبأعداد متزايدة خلال العام الماضي قبل وبعد أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، فأصبح القتيل الإسرائيلي ضحية في أعين الغرب، ومقابلة الفلسطيني ضرر أو خسائر حرب جانبية، وهو ما يزيد من الإحباط والتوترات والغضب تجاه إسرائيل والعالم الغربي ويصعب من فرص التعاون معهما مستقبلاً.
نقلا عن اندبندنت عربية