أعادْ «طوفان الأقصى»، وما تبعه من عدوان إسرائيلى على غزة، الحياة للرأى العام العربى، بعد أن أجبرته النتائج الوخيمة للربيع المزعوم على الاختفاء، حتى ظنها كثير منا النهاية التى لن تقوم له بعدها قائمة. قبل سنوات كانت حكومات الشرق الأوسط تضع الرأى العام العربى فى حسابها وهى ترسم السياسات وتصنع القرارات. تراجعت أهمية الرأى العربى فى العقد الأخير، فأسقطته حكومات من حسابها، وتصرفت متحررة من قيود رأى عام إقليمى عابر للحدود، ليجبرها الرأى العام العائد على إعادة النظر فى بعض ما كاد يصبح مسلمات مستقرة.
اتسم العالم العربى الحديث منذ تشكله قبل أكثر من مائة عام بوجود رأى عام إقليمى قوى عابر للحدود. الرأى العام العربى ليس ظاهرة ثانوية، فهو يمثل أحد المكونات الرئيسية للنظام الإقليمى فى المنطقة. فى كل من أقاليم العام المختلفة يوجد نظام إقليمى يتكون من عدد من الدول المستقلة، بعضها أكثر ثراء وقوة من بعضها الآخر، فيفرض القوى الثرى إرادته على الضعيف الفقير، فيما تتنافس الدول أو تتعاون من أجل تحقيق المصلحة الوطنية الخاصة بكل منها. هذا هو نفس ما تفعله الدول فى العالم العربى أيضا. لكن النظام الإقليمى العربى لا يتكون فقط من الدول، إنما أيضا من رأى عام عابر للحدود، ينشغل بما يجرى داخل الدول، وسياسات الحكومات، فيعلق عليه، ويصدر أحكاما وتقييمات، فيخلع على حكومة عربية صفات ترفعها إلى السماء، فيما ينزل بأخرى إلى سابع أرض.
حدود الدولة فى مناطق العالم المختلفة هى حوائط وأسوار مصمتة، تمنع نفاذ الأفراد والمؤثرات عبر الحدود، فيكتسب المجال السياسى الخاص بكل دولة استقلالا كبيرا عما يجرى فى الإقليم من حوله. لكن الحدود فى العالم العربى تختلف كثيرا عن هذا، فهى مليئة بالثقوب والنوافذ والأبواب التى تعبر منها مؤثرات قادمة من الإقليم، لتصبح جزءا من المجال السياسى للدولة. اللغة العربية والثقافة والدين والتاريخ والمزاج النفسى والتطلعات المتشابهة هى النوافذ والأبواب التى تعبر من خلالها مؤثرات تنشأ فى الإقليم إلى الداخل الوطنى، فيصبح التداخل بين الإقليمى والداخلى، أو بين العربى والوطنى، سمة مميزة للنظام الإقليمى العربى، والتى لا نجد لها شبيها فى النظم الإقليمية الأخرى إلا على نطاق شديد الضيق.
الشرق الأوسط مثل غرفة الصدى، التى يتردد فيها الصوت بين جنبات الغرفة، فيصل الصوت الواحد عدة مرات إلى كل مكان. نظام غرفة الصدى العربية يسمح لبعض الأصوات بالتردد بين جنبات النظام لفترات أطول وبقوة أشد، فيما يختفى أثر بعض الأصوات الأخرى بسرعة.
ينطلق الصوت فى غرفة الصدى العربية، وقبل أن يختفى أثره تماما، يظهر صوت جديد يتردد صداه هو أيضا، فيتداخل مع الصوت السابق والأصوات اللاحقة، فيعلو الضجيج وتغيم الأفكار، ومن هذا يتشكل الرأى العام العربى.
التناقض كامن بين نظام إقليمى يتكون من دول وعلاقات سلطوية، وبين غرفة الصدى التى يتشكل فيها الرأى العام تلقائيا، وفقا لما تسمح به الثقافة والقيم والأيديولوجيات السائدة، وتمثل سياسات حل التناقض بين الرسمى السلطوى وغير الرسمى التلقائى قسما كبيرا من السياسات العربية. فالدولة تتمسك باستقلالها، وتتمنى لو أنها تتحكم فى كل ما يؤثر فى مصالحها وسياساتها، لذا فإنها تنظر بحذر للرأى العام العابر الحدود. تحاول الدولة فى أقاليم العالم الأخرى التحكم فى مصادر وآليات تشكل الرأى العام داخل حدودها الوطنية، لكن الدولة العربية عليها بالإضافة إلى ذلك، العمل على توجيه مصادر وآليات تشكيل الرأى العام فى عموم الإقليم.
يتشكل الرأى العام العربى تلقائيا عبر آلاف الرسائل والإشارات والصور المحمولة عبر الوسائط المختلفة، وهو يتشكل أيضا قصديا عندما تتدخل الدولة فى صناعة الرسائل والصور، لتوجه الرأى العام فى اتجاه يخدم مصالحها، محاولة القيام بذلك فى الخفاء، بحيث يبدو الرأى العام وقد تشكل تلقائيا، فالظهور الصريح للدولة فى ساحة توجيه الرأى العام يضعف تأثيرها. هل لاحظت أن شبكات التليفزيون الإقليمية الرئيسية تخفى هويات الدول التى تقف وراءها خلف أسماء محايدة؟
الهاشميون هم أول من استخدم موارد السلطة من أجل تشكيل الرأى العام لإنجاح دعوة الثورة على الأتراك العثمانيين والوحدة العربية تحت التاج الهاشمي. جمال عبدالناصر هو أبرع من نجح فى توجيه الرأى العام العربى، فكانت موجات إذاعة صوت العرب سلاحا قويا عابرا لحدود الدول، تحرك الجماهير وتزلزل العروش. فى مرحلة لاحقة أنشأت دول الخليج الغنية شبكات إعلامية واسعة التأثير، تخفى الرسالة السياسية فى أداء احترافى عالى الجودة.
لقد أصبح الأمر أكثر تعقيدا وصعوبة فى عالم الإنترنت والتواصل الاجتماعى، لكن الدولة العربية ليس لديها ترف الامتناع عن توجيه هذا المجال الجديد أيضا. يزيد تعقيد الصورة أن النظام الإقليمى العربى قد أصبح «شرق أوسطى» بامتياز، بعد أن دخلت تركيا وإيران على الخط، وأصبح لهما قدرة كبيرة على توجيه الرأى العام العربى، فيما يحتمى الرأى العام فيهما وراء لغات لا يتحدث بها أحد سواهم.
قوة الدولة العربية تقاس ليس فقط بما لديها من مال وسلاح، ولكن أيضا بما لها من قدرة على توجيه الرأى العام. توازن القوى فى النظام الإقليمى العربى هو فى جانب كبير منه توازن قوى إعلامية، وهو أمر طبيعى ما دمنا نتحدث عن النظام الإقليمى لغرفة الصدى.
نقلا عن الأهرام