نتحدث فى العقود الأخيرة دائما عن العلاقات الأمريكية ــ الشرق أوسطية، وكنا فى مراحل سابقة نتناول أيضا العلاقات السوفييتية الشرق أوسطية، وإن كان ذلك بدرجات مختلفة وفى حدود أقل اتساعا. وكان ذلك منطقيا فى الماضى ولا يزال إلى حد ما، وإنما من الضرورى أيضا النظر فى العلاقات الصينية الشرق أوسطية فى الحاضر والمستقبل فى ضوء الصعود الكبير للقدرات الاقتصادية الصينية، وما سيصاحبه منطقيا من اهتمامات وممارسات سياسية فى مختلف أنحاء العالم بما فى ذلك الشرق الأوسط.
يختلف مدخل الصين للعلاقات الدولية ومصالحها الخارجية عن منهجية روسيا أو أمريكا، اللتين يفترض أن لهما حقوقا مكتسبة وموضعا مميزا بين دول العالم، بعد منافسة القطبين الاشتراكى والرأسمالى الغربى، مع سعيهما لفرض تجربتهما على الدول المتوسطة والصغرى، ما أسهم فى ظهور فلسفة الحياد الإيجابى وحركة عدم الانحياز.
بدأت الصين طرحها الخارجى بحماس وتواضع بعد انضمامها إلى الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، فاقتربت من الدول النامية، وتجنبت أى ممارسات دولية أو تصريحات قد تفسر على أنها محاولة لفرض تجربتها على الغير، ومع تنامى اندماجها فى الأسواق الدولية بمعادلاتها المرتبطة بالعرض والطلب، وضخامة الحوافز وتعدد المخاطر، لم تعد القيود الذاتية الصينية تلبى طموحاتها الاقتصادية، بخاصة من حيث احتياجاتها فى مجال الطاقة والمعادن الثمينة والتطور التكنولوجى وانفتاح الأسواق، ما فرض عليها تغيير بعض ممارساتها، وتبنى سياسات أكثر طموحا، وكحل وسط بين التواضع الجم والطموح الجارف أعلنت أن منهجيتها هى البحث عن أرض مشتركة للتعاون، مع احترام اختلافات وتباين مواقف الشعوب والأوطان، مؤيدة الأطر متعددة الأطراف، وزاد اهتمامها بالمناطق الإقليمية المختلفة التى كانت تتجنب فى الماضى المبادرة بالأفكار بشأنها.
وتم تعريف الأهداف الصينية على أنها بناء منظومات للأمن الجماعى الإقليمى على أساس المساواة والعدالة والتعددية، والحكم الجماعى الشامل، وضبط والحد من الخلافات، وهو ما طرحته وأبدت استعدادها للمشاركة فيه للمرة الأولى فى الشرق الأوسط خلال الآونة الأخيرة، فى رسائل وجهتها لمختلف دول المنطقة دون قيد أو شرط عبر طرح مستقبلى واستراتيجية طويلة الأجل، مع قراءة واعية للفرص السانحة لها الآن، فى ظل التوجه الانعزالى فى الولايات المتحدة، ورغبة فى ضبط والحد من الانغماس فى الشرق الأوسط، وانكماش النفوذ الروسى الذى يعانى ضعف الموارد بما لا يسمح له بملء الفراغ الأمريكى كاملا.
وكتب عدد من الباحثين الصينيين فى الآونة الأخيرة عن دور بكين الجديد فى الشرق الأوسط، بأنه سيستهدف ملء الفراغات التى تتركها واشنطن سياسيا أو اقتصاديا، دون أن تتحمل العبء الأمنى الذى تحملته أمريكا فى المنطقة طويلا، بهدف ضبط إيقاع المنطقة مع تجنب الصدمات، أى تستفيد الصين اقتصاديا وسياسيا مع استمرار الولايات المتحدة فى توفير الغطاء الأمنى لعدد من دول المنطقة، فى ظل انخفاض شديد فى عملياتها العسكرية.
وفى اعتقادى أن هذا التصور قد يكون متاحا مرحليا لكن لن يدوم طويلا، لأن المنافسات والفوائد والمخاطر مكشوفة للجميع، ولن تقبل به الولايات المتحدة طويلا، بخاصة مع اعتبارها الصين المنافس الأجنبى الرئيس مستقبلا. ولا أعتقد أن هذه المعادلة ستظل مقبولة على المدى الطويل حتى للصين، مع تنامى مصالحها فى الأسواق والساحات فى الشرق الأوسط، لأن هناك تداخلا وارتباطا طبيعيا بين المصالح الاقتصادية والسياسية، ولعل مؤشر الحملة الأمريكية الشديدة واتصالاتها المكثفة حتى مع حلفائها فى أوروبا لعدم الاعتماد على شركة «هواوى»، وإدخال التكنولوجيا الصينية الخاصة بالجيل الخامس إلى الأسواق الأوروبية الغربية، وامتدت تلك المنافسة أيضا للشرق الأوسط عامة ولمصر تحديدا، التى تسعى لرقمنة اقتصادها وأسواقها وخدماتها الحكومية، وتحركت أمريكا بقوة لمواجهة المنافسة الصينية فى هذا المجال.
وسبق ذلك بسنين توترات إسرائيلية أمريكية بشأن تعاون حليفها الأول مع الصين والتصدير لها، وامتدت إلى تحفظات متعددة ليس فقط حول التعاون العسكرى، بل أيضا حول دخول الصين مجال البنية الأساسية والموانئ فى إسرائيل، وهناك علاقات صينية اقتصادية متنامية بشدة مع إيران ودول الخليج العربى، أساسها اقتصادى، لكن لا تخلو من الجوانب السياسية، ومحل اهتمام ومتابعة من العالم الغربى والأمريكى بشكل خاص.
وآن الأوان أن نتحدث وندخل فى حساباتنا العربية دخول الصين السياسى فى المنطقة، لنحدد كيف نستفيد من ذلك، ليس لاستبدال صديق غربى أو شرقى بنظير صينى، بل لضمان تعدد الخيارات والبدائل المتاحة لنا فى بناء المستقبل، بخاصة ومن المتوقع أن نواجه بعدد من التحديات، فأين سيقف العرب من الاختيار بين المشروع الصينى العملاق المسمى بـ«الطريق والحزام»، وما يتم الإيعاز به أمريكيا من بدائل تطرحها الدول الغربية الاقتصادية الكبرى للحد من الانتشار الصينى، ومع تنامى التعاون الاقتصادى العربى الصينى استثماريا وتجاريا الذى سيفرض علينا فى بعض المجالات الحساسة الاختيار بين الاندماج فى الاقتصادات الغربية أو الآسيوية الصينية، بخاصة إذا احتدت المنافسة الدولية الاستراتيجية والسياسية، وفرضت عقوبات اقتصادية على الصين مثلما فرضت على روسيا. وهذا احتمال ليس مستبعدا، إذا احتدت توترات العلاقات الغربية الصينية حول تايوان أو هونج كونج، أو سعت بكين إلى الحد من اعتماد الاقتصاد العالمى على الدولار الأمريكى، فضلا عن أن حاجة آسيا والصين لمصادر الطاقة الخليجية، بخاصة من إيران قد يضعها فى موقف سياسى غير مريح لأطراف غربية.
علينا تقييم الأوضاع جيدا والدخول فى علاقات بناءة ومفيدة مع الصين إحدى الدول العظمى فى المستقبل، مع ضبط ميزان علاقاتنا للاستفادة من الفرص المتاحة، وتجنب أن نجد أنفسنا أمام خيار أوحد، بين قوة الغرب وآسيا، خصوصا أن المنافسة والتوتر بينهما حاضران، وتجنبا أن يصبح مستقبلنا جزءا من محاور الاستراتيجية للدول الكبرى مرة أخرى.
نقلا عن الشروق