تجنّباً لأي حل وسط يعتبره الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع” سيئاً، فإنهما يتجهان بالبلاد نحو الأسوأ. الحال التي فرضت نفسها صباح 15 نيسان (أبريل) الماضي، حين تفجّرت ازدواجية العنف “الرسمي”، لا تزال سائدة، فلم تُحسم بالسلاح ولا بالسياسة، بل إنها وضعت الداخل والخارج في حرج الاختيار، فيما تدفع بالسودان إلى حرب أهلية طويلة تتجمّع مؤشّراتها وتزداد.
على رغم أنه كان يُفترض أن يكون الاختيار عفوياً لمصلحة الجيش، باعتباره عماد الدولة ورمز الوطنية، إلا أن الاستجابة لنداء قائده عبد الفتاح البرهان إلى “شباب البلاد” كي يؤازروا الجيش كانت متواضعة، ذاك أن تاريخ انقلاباته العسكرية التي دأبت على خذلان الشعب – وآخرها في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021 لمنع الانتقال السياسي الديموقراطي – بدّل المشاعر “الوطنية” تجاهه، وباتت قوى “ثورة 2018” وأحزابها تقاربه بالارتياب كونه الإطار الذي استخدمه “الاخوان المسلمون”/ أو “الكيزان” (بالمصطلح المحلّي) للحكم من خلاله. وكان هؤلاء قد انكفأوا بعد إطاحة عمر البشير (2019) لكن “آلافاً ممن عملوا (سابقاً) في جهاز الأمن والمخابرات يقاتلون الآن إلى جانب الجيش” (رويترز) كي يبقى ليبقوا معه في الحكم.
لم يعنِ ذلك أن الاختيار ذهب تلقائياً إلى “قوات الدعم السريع”، فهذه ليست القوات المسلحة للدولة بل كانت القوة الضاربة للحكم العسكري القائم وتسعى الآن للحلول محله. وهي بتركيبتها القبلية – الميليشيوية وتاريخها الإجرامي الموثّق في دارفور وقمعها الوحشي للثوار والمجازر التي ارتكبتها ضد الاعتصام في قلب الخرطوم، فضلاً عن مشاركتها في انقلاب 2021 حتى لو اعترف قائدها لاحقاً بأنه أخطأ في ذلك، ومع إضافة الانتهاكات التي ارتكبها مقاتلوها أخيراً في الخرطوم ودارفور… لا يمكن تخيّلها في سدّة السلطة أو أن تكون موضع مراهنة على “انتقال سياسي” وإقامة “دولة مدنية”. ربما شكّلت في بعض الأذهان “عنصر توازن” داخلياً مع إسلاميي الجيش، إلا أنه كان توازناً كاذباً، فقد أدّى إلى الحرب الحالية التي لم تكشف بعد عن كل مفاجآتها.
أما في الخارج فواجه الجيش صدمة مساواته، ولو غير مصرّح بها، مع الميليشيا. فالدول تعاملت معهما على أنهما ذراعان لجيش واحد، وإذا بالحرب تجعل منهما طرفاً مقابل طرف، ثم إن عدم الحسم كرّس هذه الوضعية، ويحول دون نجاح أي هدنة ودون البحث في تسوية، لأن كلاً منهما يريد كسر الآخر ولا يتصوّر أي اندماج معه. سبق للجيش أن تلقى صدمة مماثلة عندما رفضت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وهيئة “إيغاد” ومجموعة الدول الغربية والعربية المعنية انقلابه على الحكومة المدنية ولم تعامله كصاحب “شرعية”، بل فرضت عليه شرط إعادة الحكم المدني لتستأنف برامج مساعدة كانت بدأت تنفّذها ثم أوقفتها بعد الانقلاب.
وبسبب هذه الصدمة، ارتبك أداء الجيش في التعاطي مع الوساطات الخارجية، ومن حيث يدري أو لا يدري مكّن “قوات الدعم” من تسجيل نقاط ضدّه. والأهم أنه اكتشف أن شبكة العلاقات الخارجية (وحتى الداخلية) التي نسجها قائد “الدعم”، “حميدتي”، لعبت لمصلحته على نحو واسع، إذ أرسل عشرات الألوف من مقاتليه إلى عدد من الدول، وأسس مع عدد آخر مصالح، بينها الإتجار بالذهب (بحماية قوات “فاغنر”) الذي لم يقتصر على روسيا وحدها.
امتد الارتباك في أداء الجيش إلى عدم الحرص على إنجاح المسعى السعودي – الأميركي، ثم إلى إحباط المبادرة الأفريقية، وقبل ذلك الامتناع عن التعاون مع الأمم المتحدة. وعلى رغم علمه بتعقيدات الأوضاع الدولية الراهنة، فإنه طلب أخيراً مساعدة روسيا، ووافق الفريق البرهان مسبقاً على أي مبادرة لتركيا، ولا يزال يستمزج إسرائيل (لديها علاقات مع الطرفين) في إمكان توسّطها لدى واشنطن. وعلى المستوى الميداني لم يتمكّن من وقف تغلغل “قوات الدعم” في أحياء العاصمة المثلثة، كما لم ينجح في ضبط الوضع في دارفور، وحين سحب وحدات عسكرية من الجنوب بوغت بتحرك “الحركة الشعبية” (جناح عبد العزيز الحلو) ضدّه في ولاية النيل الأزرق.
وبالتزامن خسر الجيش معسكر قوات الاحتياطي المركزي، وكانت هذه القوات قد تلكّأت في دخول الاشتباكات، أولاً بسبب غياب قائدها الفريق عنان حامد الذي كان في الخارج ولم يعد بعد اندلاع الحرب، وثانياً لأن نائبه الفريق نصر الدين عبد الرحيم حاول تحييد قواته كونها تابعة للشرطة، لكنه توفي في ظروف غامضة وتردّد أنه اغتيل في 3 أيار (مايو) 2023 بأيدي أفراد تابعين لـ”الأمن الشعبي” (من فلول النظام السابق). وبعد استيلائها على معسكر الاحتياطي المركزي أصبحت “قوات الدعم” تشكّل تهديداً مباشراً لمعسكر المدرعات المتاخم له في منطقة الشجرة في الخرطوم، ويحاول الجيش حالياً إبعاد الخطر عن هذا الموقع المهم من أصل ثلاثة لا تزال في يده، مع سلاح المهندسين في أم درمان وسلاح الجو في وادي سيدنا شمالي أم درمان.
أدّى سقوط معسكر “الاحتياطي” في يد “قوات الدعم” إلى مزيد من الإرباك للجيش الذي دافع في بيان عن “حياد” الشرطة، مع أنه مارس ضغطاً عليها لتشارك في العمليات القتالية في العاصمة، أما خصمه فأشار إلى كميات الأسلحة والذخائر التي غنمها، ما يمكّنه من الاستمرار في معركة الاستنزاف الدائرة. اغتنم “حميدتي” تلك اللحظة لإعلان هدنة ليومين من جانب واحد بمناسبة عيد الأضحى، فأحرج الجيش الذي انتظر يوماً قبل الإعلان عن هدنة مماثلة. وفي أي حال لم تكن تلك هدنة شاملة وفعلية، بل رأى المراقبون أنها محاولة من “حميدتي” لإظهار نفسه حاكماً محتملاً للسودان، وقبل ذلك كان أصدر أمراً بتشكيل “لجنة ومحكمة ميدانية” لمحاسبة “المتفلّتين” (من مقاتليه) الذين تتهمهم هيئات دولية بارتكاب جرائم قتل (منها اغتيال والي غرب دارفور خميس أبكر) واعتداءات على النساء وانتهاكات مروّعة ضد المدنيين.
وإذ يفتقد “حميدتي” الكثير كي يصبح مشروع حاكم مقبل، فإن مصادر عديدة تشير إلى أنه نجح في نواحٍ ثلاث: التقارب مع بيئات قبلية مهمة في وسط السودان، عدم خسارة القبول الخارجي الذي كان يحظى به، والحفاظ على صورة “الرجل القوي” الذي يرغّب الدول في التعامل معه.
في الأثناء يتعزز الاقتناع في العواصم المعنية بأن الوضع السوداني غير القابل للمعالجة داخلياً بات يتطلّب نوعاً من التدخّل الخارجي. وفيما يجري البحث أميركياً في نسخة جديدة من قوات فصل أفريقية، على غرار “أفريكوم”، يمكن نشرها بغطاء أممي – أفريقي، بدأت دول الجوار كافة تُظهر ميولها، فمصر تراقب ولديها خيارات، وإثيوبيا تهتمّ بالتطورات في ولاية النيل الأزرق، وأفريقيا الوسطى تغاضت عن تسهيل قوات “فاغنر” سيطرة “قوات الدعم” على حامية أم دافوق الحدودية لدخول جنوب دارفور، ولكلٍّ من ليبيا وتشاد دور قد يتبلور لاحقاً…
نقلا عن النهار العربي