لا يزال تطوير رؤى استشرافية لمستقبل الشرق الأوسط موضع اهتمام صناع القرار الإسرائيليين، وهي الرؤى التي تستهدف التعاطي مع الفرص والتحديات الناتجة عن التفاعلات القائمة بالمنطقة. وفي هذا الصدد، نشر معهد الشرق الأوسط في الولايات المتحدة في مارس الماضي، دراسة استشرافية حول مستقبل الشرق الأوسط في عام 2030، لكلٍّ من آري هيستين ودانيال راكوف ويوئيل جوزانسكي، وسعت الدراسة إلى تطوير سيناريوهات لمستقبل المنطقة من وجهة نظر إسرائيلية، حيث قام على تأليف الدراسة باحثون في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي.
اتجاهات متعددة
حددت الدراسة عددًا من الاتجاهات التي ستؤثر على الشرق الأوسط خلال العقد المقبل، وتتمثل فيما يلي:
– تراجع القطبية الأحادية: يمثل الانتقال العالمي المستمر من نظام القطبية الأحادية إلى نظام ثنائي القطبية (الولايات المتحدة والصين) أو متعدد الأقطاب (الولايات المتحدة والصين وروسيا) تحديًا متزايدًا للنظام الدولي الحالي، وهو ما سينعكس على التنافس الدولي في المنطقة. حيث تسعى الولايات المتحدة لتقليل وجودها العسكري في الشرق الأوسط لصالح آسيا، بينما توسع الصين من تواجدها في جميع أنحاء العالم عبر مشروعات التجارة والبنية التحتية. بالإضافة إلى المحاولات الروسية لإعادة التواجد كطرف قويّ في المنطقة.
– المنافسة الإقليمية: سيستمر التنافس الشديد -بحسب الدراسة- بين قوى الشرق الأوسط على النفوذ في عددٍ من دول المنطقة مثل سوريا واليمن ولبنان وليبيا. كما ستستمر التحالفات المتنافسة في المنطقة، مثل: التحالف الشيعي بقيادة إيران، والتحالف التركي-القطري، والتحالف بين السعودية والإمارات، ولكن مع غلبة الطابع المصلحي على هذه التحالفات. ويصاحب هذا التنافس إمكانية انتشار التهديدات المسلحة.
– الراديكالية الأيديولوجية: قد يؤدي تزايد القمع السياسي في المنطقة، وتضاؤل فرص تحقيق التغيير السياسي السلمي، إلى انتهاج السكان أيديولوجيات أكثر راديكالية وعنيفة. وبينما تعاني جماعة الإخوان من حالة انحسار، فمن المحتمل -وفقًا للدراسة- ظهور شكل آخر من الإسلام الراديكالي أو حتى تيار أيديولوجي راديكالي مختلف تمامًا.
– تزايد الضغوط الديموغرافية: من المتوقع أن يرتفع عدد سكان الشرق الأوسط بحوالي 20٪ ليصل عددهم إلى 581 مليون شخص بحلول عام 2030. وسيؤدي ارتفاع معدل الخصوبة في المنطقة إلى خلق ضغوط إضافية على الدول حال عدم حدوث زيادة سريعة في الاستثمار، حيث يمكن أن يؤدي إلى زيادة تقدر بنسبة 11٪ في بطالة الشباب، وتسرب خمسة ملايين طفل من التعليم.
– الآفاق الاجتماعية والاقتصادية: يتوقع التقرير ألا يحدث تحسن كبير في المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية في الشرق الأوسط، والتي ساهمت في الاضطرابات السياسية في عام 2010 وما بعده. حيث لا يزال هناك نقص نسبي في الموارد البشرية، وتراجع في الثقة السياسية، بالإضافة إلى المشكلات التي تعترض محاولات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الداخلي. كما ستواجه اقتصاديات المنطقة تحديات كبيرة في التعافي من أزمة (كوفيد-19)، وستجد الدول النفطية نفسها معتمدة على سوق نفط متقلب.
– المشكلات البيئية: من المرجح أن يؤدي تغير المناخ إلى التكريس لمعضلة ندرة المياه في الشرق الأوسط والذي يعاني من فقر مائي بالفعل، مما يؤدي إلى نقص الغذاء، وتصاعد عمليات اللجوء، حيث يذكر التقرير أن بعض مناطق الخليج العربي ربما تصبح غير صالحة للسكن بحلول عام 2050.
وبخلاف هذه الاتجاهات الرئيسية، فإن هناك تطورات محتملة أخرى قد تساهم في تحولات الشرق الأوسط خلال العقد القادم، مثل: تغير القيادة داخل النظام القائم، والاضطرابات الداخلية التي تؤدي إلى تغيير النظام، والتدخلات العسكرية من قبل القوى العالمية والإقليمية في الأزمات، وطريقة وشروط انتهاء النزاعات العسكرية الحالية، وتحول التحالفات القائمة، وامتلاك أسلحة نووية، والتطورات التكنولوجية الهائلة التي تغير ميزان القوة الاقتصادية أو العسكرية، والكوارث الطبيعية التي تلحق خسائر بشرية أو مادية بالبنية الأساسية.
مستقبل المنطقة
استخدمت الدراسة متغيرين رئيسين لرسم السيناريوهات المستقبلية للمنطقة، حيث يتصل المتغير الأول بطبيعة الدور الأمريكي، ومدى استعداد الولايات المتحدة للعب دور مؤثر في المنطقة، وهو ما سيكون له انعكاس على ترتيبات القوى الدولية والإقليمية، فضلًا عن التنظيمات الإرهابية الطامحة إلى تعزيز نفوذها بالمنطقة. بينما ينصرف المتغير الثاني إلى تأثير العوامل الداخلية في دول المنطقة، إذ يرتبط الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في دول الشرق الأوسط ارتباطًا وثيقًا بالضغوط الديموغرافية، والآفاق الاقتصادية، والمشكلات البيئية، والتطورات التكنولوجية. وتأسيسًا على هذين المتغيرين، طرحت الدراسة أربعة سيناريوهات محتملة لمستقبل الشرق الأوسط في عام 2020، وهي:
1- انخراط أمريكي واستقرار إقليمي: وفقًا لهذا السيناريو، سيساهم التوصل السريع للقاح فيروس كورونا في انتعاش سريع للاقتصاد العالمي وتجدد الطلب على النفط والغاز. وستعمل روسيا مع السعودية لتوسيع وتقوية “أوبك بلس” من أجل الحفاظ على ارتفاع أسعار الطاقة. كما تستمر الدول النفطية في الشرق الأوسط في تقديم الدعم المالي للدول الأفقر بالمنطقة.
وستلتزم الإدارات الأمريكية بمعالجة تحديات الشرق الأوسط من خلال الدبلوماسية الاستباقية، بهدف الحد من النفوذ الصيني والروسي. ولذلك ستستأنف التعاون الوثيق مع تركيا لإبعادها عن روسيا. وكذلك الحال مع دول مجلس التعاون الخليجي لإبعادها عن الصين ولردع إيران. وستحاول أنقرة استثمار التعاون الأمريكي في الضغط على القوى الإقليمية من أجل أن تصبح تركيا مركزًا للطاقة في البحر المتوسط.
وفي السياق ذاته، ترسم الدراسة تحولًا في اتجاهات النظام السوري نحو واشنطن بدلًا من موسكو وطهران، مقابل الاعتراف بالسيطرة السورية على الأراضي الكردية السورية مع صيغة للحكم الذاتي، والعودة إلى جامعة الدول العربية، وإسهام دول الخليج في تمويل جهود إعادة الإعمار، والضغط على تركيا للانسحاب من شمال غرب سوريا مقابل ضمانات أمنية بكبح دمشق للنشاط الانفصالي الكردي.
ويشير هذا السيناريو إلى إمكانية لعب سلطنة عمان دورَ وسيط بين الرياض وطهران بما يحقق انفراجة تسفر عن موافقة الأخيرة على الدمج الكامل للمليشيات الشيعية في القوات المسلحة العراقية، مع احتفاظها بأدوات نفوذ غير مباشرة كبيرة في العراق. كما يتوقع السيناريو توقيع إيران لاتفاق نووي جديد، وتجميد برنامجها النووي، والتهدئة من نشاطها في المنطقة في مرحلة ما بعد خامنئي. والضغط على حزب الله لتسوية نزاع الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل من أجل تطوير حقول الغاز اللبنانية، مع احتفاظ الحزب بنفوذه السياسي والسلاح.
ويظهر هذا السيناريو أن التدخل الأمريكي القوي في المنطقة وحده قد لا يضمن حماية المصالح الأمنية لإسرائيل. كما أن المزيد من الاستقرار الداخلي يمكن أن يجعل الجهات الفاعلة الرئيسية في الشرق الأوسط أكثر حزمًا تجاه إسرائيل. وستفقد إسرائيل القدرة على المناورة في سوريا بسبب مكانة روسيا، وقد تفقد مكاسب اتفاقات التطبيع أو الصفقة مع إيران بسبب تعقيد وترابط مشاكل الأمن الإقليمي.
2- انخراط أمريكي في منطقة غير مستقرة: ستقلص واشنطن بشكل طفيف وجودها العسكري في المنطقة، مع الاحتفاظ بقوات كبيرة في الخليج، وبدرجة أقل في العراق وسوريا. وتشجع بالتوازي مع ذلك الجهات الإقليمية الفاعلة على مواجهة تحدياتها الأمنية بنفسها، بما يرفع من مكاسب مبيعات الأسلحة إلى دول المنطقة.
ويفترض هذا السيناريو تباطؤ التعافي الاقتصادي العالمي بسبب النكسات في إنهاء أزمة كورونا، وأن تظل أسعار الطاقة أقل من مستويات عام 2019. وهو ما يُجبر دول الخليج على تقليص دعمها الاقتصادي للدول العربية الأفقر. بالإضافة إلى حدوث اضطرابات في المنطقة، وتدهور الخدمات الحكومية، بسبب الأوضاع الاقتصادية الخانقة، في ظل النمو السكاني.
ويجعل هذا السيناريو من المنافسة بين القوى العظمى المنظور الأساسي لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة، كما يشير إلى احتمالية تفكك التحالفات التقليدية في المنطقة، وكذلك احتمالية تآكل التحالف الأمريكي الإسرائيلي وظهور هيكل أمني إقليمي جديد.
3- انسحاب أمريكي واستقرار إقليمي: ستستغل الولايات المتحدة، بحسب الدراسة، التعافي الاقتصادي العالمي السريع من أزمة كورونا لزيادة الضغط على الصين، وتقليل الالتزامات في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا، وستنسحب من العراق وسوريا وأفغانستان، وتخفض من تواجدها في الخليج. كما تتعافى أسعار الطاقة إلى مستويات ما قبل الجائحة.
ويتوقع هذا السيناريو امتداد عنف المليشيات الشيعية من العراق إلى الخليج، ومهاجمة البنية التحتية الحيوية بما في ذلك محطات ضخ النفط والمصافي وخطوط الأنابيب. كما سيؤدي الخلاف الإيراني العربي إلى زيادة التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري بين الدول العربية. وستعود دمشق إلى جامعة الدول العربية وتعمل على الحد من النفوذ والأنشطة الإيرانية على أراضيها. في الوقت الذي تحاول فيه طهران توسيع تعاونها مع الانفصاليين الأكراد في العراق وسوريا لزيادة نفوذها. بينما ستحاول أنقرة تحويل المياه من نهر أراس، مما يترك شرق إيران في مواجهة ندرة المياه.
في هذا السيناريو، لا يلغي الضغط الأمريكي المخفف على إيران إمكانية تغيير النظام، لكن النظام الجديد قد لا يدخل الفلك الغربي أو يفقد طموحات الهيمنة والقدرات النووية. وفي الوقت نفسه فإن الدولة التالية في الشرق الأوسط التي تمتلك أسلحة نووية ليست بالضرورة إيران، وقد تظهر العديد من القوى النووية خلال فترة زمنية قصيرة. وقد يؤدي تنامي الطموحات التركية والإيرانية إلى إحياء القومية العربية كقضية أو فكرة سياسية موحدة في المنطقة. ومع تراجع نفوذ الولايات المتحدة ووجودها، يمكن أن يصبح الشرق الأوسط ساحة للمنافسة الاستراتيجية بين روسيا والصين.
4- انسحاب أمريكي من منطقة غير مستقرة: ويفترض هذا السيناريو أن تستمر الأزمة الاقتصادية العالمية لفترة طويلة بعد انحسار الأزمة الصحية لكورونا. ولذلك سيستمر انخفاض أسعار الطاقة وتضرر اقتصادات الشرق الأوسط، بما في ذلك دول الخليج. وهو ما يؤدي إلى تراجع مصالح القوى العظمى في المنطقة. لكن ستواصل الولايات المتحدة وأوروبا التركيز على الأهمية العالمية لحقوق الإنسان والديمقراطية، وتضغط على الحكومات العربية للامتثال لها، وتهدد بفرض عقوبات عليها إذا لم تفعل ذلك.
وسيرفع التعامل غير الكفء لحكومات الشرق الأوسط مع أزمة كورونا، بالإضافة إلى المشكلات الاقتصادية الهيكلية، من شعور المواطنين بالإحباط. وسترى أعداد متزايدة من عامة الناس في الجماعات الإسلامية الراديكالية بدائل جذابة مناهضة للنظم الحاكمة.
ويجادل هذا السيناريو بأن فراغ القوى العظمى وما ينتج عنه من تدهور في النظام الإقليمي يمكن أن تصاحبه فرص لإسرائيل لتقليل التهديدات العسكرية الكبيرة بتكلفة أقل وزيادة تواجدها الإقليمي من خلال تعاون أعمق داخل المنطقة.ختامًا، ترى الدراسة أن البيئة الاستراتيجية في الإقليم ستشهد تغيرات في ضوء التآكل المستمر للدعم من الحزبين الديمقراطي والجمهوري الأمريكيين لإسرائيل، والذي سيتزايد بسبب الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة، وصعوبة إدارة المنافسة بين القوى العظمى، مما يدفع واشنطن إلى الحد من دعمها لتل أبيب. ولكن مع ذلك ستظل الأولوية الرئيسية على أجندة الأمن القومي الإسرائيلي هي منع حصول أي دولة في الشرق الأوسط على أسلحة نووية.