فازت وزيرة الخارجية البريطانية السابقة ليز تراس على منافسها وزير الخزانة ريشي سوناك بزعامة حزب المحافظين الحاكم بعد منافسة استمرت شهرين في أعقاب استقالة رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون في 7 يوليو الماضي، لتصبح تراس ثالث امرأة تتولى رئاسة الحكومة في تاريخ بريطانيا. ومع تعدد التحديات الداخلية التي تواجهها تراس، مثل أزمة تكاليف المعيشة والتضخم وارتفاع أسعار الطاقة؛ فإن توليها قيادة وزارة الخارجية في حكومة جونسون يمنحها خبرة في إدارة ملفات السياسة الخارجية البريطانية، ولكن ذلك لا يعني أنها سوف تقدم على إجراء تغييرات جذرية فيها، ولا سيما تجاه منطقة الشرق الأوسط، في وقت تركز فيه على مواجهة تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية محلياً ودولياً.
ملفات رئيسية
تكشف تصريحات ومواقف تراس خلال توليها منصب وزيرة التجارة الدولية، ووزيرة الخارجية البريطانية، عن الاتجاهات المحتملة للسياسة الخارجية البريطانية في ظل قيادتها إزاء منطقة الشرق الأوسط، حيث توحي بأنها سوف تهتم في المرتبة الأولى بالملفات والقضايا ذاتها التي ركزت عليها حكومة بوريس جونسون في منطقة الشرق الأوسط، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:
١- إحياء الاتفاق النووي الإيراني: كانت -ولا تزال- قضية عودة إيران إلى الالتزام بتعهداتها في الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥، الذي انسحبت منه إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 8 مايو ٢٠١٨، أولوية بريطانية، ولا سيما مع انخراط لندن في المفاوضات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران في فيينا. وتُظهر التصريحات السابقة لتراس أن الحكومة البريطانية الجديدة ستتبنى موقفاً أكثر تشدداً تجاه الملف النووي الإيراني، وخاصة مع التقدم البطيء في المفاوضات للعودة إلى الالتزام الإيراني بخطة العمل الشاملة المشتركة. فقد سبق أن قالت: “في حالة انهيار الاتفاق النووي فإن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة”. ولكنها في الوقت الذي تؤكد فيه على ضرورة العمل لمنع طهران من الحصول على أسلحة نووية، فإنها ترفض العمل العسكري. وفي المقابل، تُفضل التعاون مع حلفاء بريطانيا حول العالم وفي الشرق الأوسط، ومن ضمنهم إسرائيل، لمنع إيران من امتلاك قنبلة نووية. كما ستركّز الحكومة البريطانية الجديدة على ضرورة التعاون بين بريطانيا وحلفائها أيضاً لكبح الدعم الإيراني للمليشيات المسلحة في المنطقة.
٢- تعزيز العلاقات البريطانية-الإسرائيلية: لن تختلف سياسة تراس تجاه إسرائيل عن تلك التي تبنتها الحكومات البريطانية السابقة، لكنها قد تسعى إلى تعزيز العلاقات بين لندن وتل أبيب بشكل أكبر، ودعم الأخيرة في الحفاظ على أمنها القومي، والدفاع عن نفسها ضد أي تهديدات إقليمية، وهو ما أكدت عليه في رسالتها إلى مجموعة “أصدقاء إسرائيل” بحزب المحافظين، التي تضم أكثر من ٢٠٠ عضو من ساسة ورجال أعمال وأكاديميين وإعلاميين، في 7 أغسطس الفائت، بينما كانت إسرائيل تقصف قطاع غزة في أوائل الشهر ذاته.
كما أعلنت تراس في رسالتها –السابق الإشارة إليها- أنها ستعيد النظر في نقل السفارة البريطانية من تل أبيب إلى القدس، وهو ما سيتعارض مع الالتزامات البريطانية الدولية تجاه القضية الفلسطينية. وقد عبرت عن معارضتها أيضاً لتبني بعض المؤسسات البريطانية حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها لكونها “تمييزية”، وتتعارض مع مواقف الحكومة البريطانية الجديدة.
وقد قالت إنها ستتخذ موقفاً قوياً لمعالجة معاداة السامية على المستوى الدولي، ولا سيما في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حيث ترى أنّ المجلس يروج لجدول أعمال خاص “يحتوي بصراحة على عناصر قوية من معاداة السامية”. وخلال توليها منصب وزيرة الخارجية في حكومة جونسون، انخرطت الوزارة في مفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل على أمل تعزيز التجارة بين الحليفين التي تزيد قيمتها على ٥ مليارات دولار.
٣- تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية: في مقابل تأييد تراس لضرورة تعزيز العلاقات البريطانية-الإسرائيلية، وحق تل أبيب في الدفاع عن نفسها، فإنه يتوقع أن يتراجع اهتمام الحكومة البريطانية الجديدة بالقضية الفلسطينية. فقد تعرضت تراس عندما كانت تتولى وزارة الخارجية البريطانية لانتقادات من قبل منظمة العفو الدولية لإخفاقها في الدعوة لإجراء تحقيق حول مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، ولعدم تسليطها الضوء على الهجمات الإسرائيلية على حرية الإعلام، وكذلك لعدم إدانتها العنف الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.
٤- إبرام اتفاق تجارة حرة مع دول الخليج: في وقت تسعى فيه بريطانيا إلى تنويع شركائها التجاريين قدر الإمكان في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي، أشرفت تراس على بدء الجهود البريطانية للتوصل إلى اتفاقية تجارة حرة مع دول مجلس التعاون الخليجي الست كبديل لما كان متاحاً من خلال الاتحاد الأوروبي. ويعتقد أن تلك الاتفاقية ستضيف ١,٦ مليار جنيه استرليني سنوياً للاقتصاد البريطاني. وقد أوضحت تراس خلال استضافة وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، في 20 ديسمبر الماضي، أن العلاقات الاقتصادية البريطانية والأمنية الوثيقة مع شركائها الخليجيين ستوفر الوظائف والفرص للشعب البريطاني. ويُتوقع أن تُضيف الاتفاقية نحو ٦٠٠ مليون جنيه في الأجور السنوية للعاملين بالمملكة المتحدة. وفي العام الماضي، بلغ إجمالي التبادل التجاري بين بريطانيا ودول مجلس التعاون الخليجي 33.1 مليار جنيه إسترليني، ليكون المجلس سابع أكبر سوق تصدير للمملكة المتحدة. وتتزايد أهمية الشراكة التجارية بين بريطانيا والدول الخليجية في وقت يشهد فيه الاقتصاد البريطاني بعض الأزمات في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية، والتي لا تزال مستمرة حتى الآن.
٥- ضمان إمدادات الطاقة من الشرق الأوسط: مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وتصاعد تأثيراتها على أسعار الطاقة داخلياً، لا سيما بعد أن أوقفت روسيا إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر خط “نورد ستريم 1″، فإن الحكومة البريطانية الجديدة ستعمل على عقد عدد من صفقات الطاقة مع الدول الرئيسية المنتجة للنفط والغاز بالشرق الأوسط لتعويض إمدادات الغاز الروسي لأوروبا والمملكة المتحدة. وقد تعهّدت تراس قبل يوم واحد من تعيينها كرئيسة للحكومة البريطانية الجديدة باتخاذ إجراءات حاسمة لزيادة إمدادات الطاقة. وأكّدت أن المملكة المتحدة تنظر لدول مجلس التعاون الخليجي كمصدر بديل للنفط والغاز الروسي.
أجندة محددة
يبدو أن سياسة الحكومة البريطانية الجديدة تحت قيادة الزعيمة الجديدة لحزب المحافظين ليز تراس سوف تركز على التعامل مع الأزمات والتحديات التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط وفق المصالح البريطانية التي شهدت جملة من التحولات في أعقاب عملية الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وسيكون الاهتمام البريطاني بتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة متقدماً على الأهداف الأخرى مثل حقوق الإنسان والديمقراطية. ومع استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية التي دخلت شهرها السابع، والتي تفرض على الحكومة البريطانية الجديدة التعامل مع تداعياتها الملحّة، والتي ستتقدم أجندة عملها، فإنه من غير المتوقع أن تبدي حكومة ليز تراس اهتماماً كبيراً بمناطق الصراعات في الشرق الأوسط، ولا سيما في الدول التي تُعاني من حروب أهلية واقتتال داخلي كما هو الحال في ليبيا وسوريا واليمن، وتبدد أفق التسوية السياسية فيها على الأقل في المديين القريب والمتوسط. ولن تخرج رؤية الحكومة البريطانية الجديدة تجاه العديد من ملفات وتحديات المنطقة عن الرؤية الأمريكية والأوروبية.